القاسم بن يوسف التجيبي
شكلت الرحلة جزءا من الشخصية الثقافية للغرب الإسلامي، وهذا يدل على رغبة المغاربة في اكتشاف الآفاق بحثا عن المعرفة والثقافة، ولا شك أن الحج وزيارة مدينة الرسول الكريم شكلا المقصد الأسمى للرحلات المغربية الأندلسية، لكن أبعاد الرحلة كانت متعددة يشترك فيها الديني بالعلمي بالثقافي والسياسي. وجدير بالملاحظة أن العصر المريني بالمغرب عرف تكثيفا للرحلات التي دوَّنها أصحابها بعد عودتهم، فأضحت بيانات علمية متعددة المنافع لا زال الباحثون في مختلف المجالات يستثمرونها إلى اليوم.. وتعتبر رحلة القاسم التجيبي المسماة “مستفاد الرحلة والاغتراب” من أهم الرحلات وأبدعها، وقد جاءت لتكمل رحلات أخرى من نفس العصر كرحلة ابن رشيد السبتي ورحلة العبدري الحاحي ورحلة بن جبير.. فمن هو هذا العالم الفاضل الذي ترك لنا رحلة ثرية شديدة النفع وفهرسة لشيوخه عرفت ببرنامج التجيبي؟
هو القاسم بن يوسف بن محمد بن علي التجيبي البلنسي السبتي، وتجِيب من أقدم القبائل التي نزلت الأندلس، وديارها في سرقسطة ودروقة، وقد أفاض ابن حزم في “جمهرة أنساب العرب” في ذكر رجالها ومواقعها، وأصل التجيبي من بلنسية كما أثبت ذلك على صدر نسخة برنامجه….
ولد حوالي (670 هـ / 1271 م) ، في بلنسية، وهاجرت أسرته إلى سبتة، ويبدو أن خروجه للرحلة والطلب كان حوالي 695 هـ، فدخل بجاية وتونس، والإسكندرية والقاهرة ثم حج وبقي في مكة من رمضان إلى ذي القعدة سنة 696 هـ، وانصرف من حجه إلى دمشق حيث لقي شيخ الإسلام ابن تيمية وروى عنه..
أشار القاسم التجيبي نفسه في برنامجه (ص: 24) إلى أن ولادته كانت حوالي سنة 670هـ وهو يتحدث عن السند العالي الذي روى به موطأ الإمام مالك بمدينة دمشق بطريق شرف الدين أبي الفضل بن عساكر، ووصف إسناده هذا بأنه جليل في غاية العلو…
يقول محقق “برنامج التجيبي” الأستاذ عبد الحفيظ منصور (الدار العربية للكتاب، ليبيا،1981): “ليس لدينا تصور واضح عن نشأته المبكرة وأسرته، إلا أن البرنامج يقدم مادة ثقافته وشيوخه تقديما وافيا، ولو أنه لم يدرج على التأريخ لتلقيه إلا في القليل النادر، وقد استأثرت به قراءة القرآن بقراءاته المشهورة وغيرها، ودرس مشاهير الكتب في هذا الفن بأسانيدها، كالكافي لابن شريح الذي أنهى قراءته بسبتة سنة 686هـ، وهو في السادسة عشر من عمره، وتدرجت معارفه بسبتة لتناول النص القرآني بالتفسير والتعرف على لغاته سنة 691هـ”…
ويستخلص عبد الحفيظ منصور من “البرنامج” أن خروج التجيبي “للحج والطلب كان حوالي سنة 695هـ، إذ نجده وقتها ببجاية يروي بعض كتب ابن الأبّار البلنسي الذي تعرف على أعماله منذ كان بسبتة، وفي السنة نفسها تحول إلى تونس وروى عن شيوخها، وفي 9 ربيع الثاني سنة 696هـ كان بالإسكندرية، ثم نجده بالقاهرة في 9 جمادى الأولى من السنة نفسها يروي الحديث بالمدرسة الظاهرية”…
وقد استأثر الجزء الموجود من رحلته المسماة “مستفاد الرحلة والاغتراب” بتفاصيل عن مشاهداته ولقاءاته ومروياته مفصلة عن مصر ومن لقي بها، ثم خروجه من ميناء عيذاب إلى جدة حيث بدأ حجه، وبقائه في مكة من شهر رمضان إلى منتصف ذي القعدة سنة 696هـ، ثم انصرافه إلى دمشق التي كان بها في محرم و صفر سنة 697هـ، ولقي بها الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية كما مر معنا…
ومثلما الشأن مع رحلة ابن رُشيد السبتي التي لم تصلنا كاملة؛ فإن رحلة صاحبنا التجيبي لم تصلنا كلها، فابن حجر يقول عنها: “وقفت على رحلته وهي ثلاث مجلدات ضخمة وقد حذا فيها حذو ابن رُشيد” (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ج3، ص: 325، طبعة مصر). ويقول أحمد بابا التمبوكتي في “نيل الابتهاج بتطريز الديباج”: “وهو كتاب نفيس في ثلاث مجلدات فيها فوائد كثيرة” كما ذكرها صاحب “بلغة الأمنية ومقصد اللبيب فيمن كان بسبتة في الدولة المرينية من مدرس وأستاذ وطبيب” وهو مؤلف مجهول. ويرجح الأستاذ إسماعيل الخطيب في كتابه “الحركة العلمية في سبتة خلال القرن السابع” (منشورات جمعية البعث الإسلامي، تطوان، 1986، ص: 325) أن “نسخ الرحلة كانت معروفة في المشرق والمغرب ولكنه لا يوجد الآن إلا قسم منها لعله الجزء الثاني بينما يعتبر مفقودا الجزء الأول والثالث “.. وهذا الجزء يقع في مجلد عدد أوراقه 203 مسطرته 25، وهو الآن ضمن مخطوطات دار الكتب القومية بتونس؛ وقد طبع بتونس سنة 1975 تحت إشراف عبد الحفيظ منصور، طبعة الدار العربية للكتاب.. واعتماداً على برنامج التجيبي كما يذكر المحقق عبد الحفيظ منصور (محقق البرنامج والرحلة)؛ فإنّ الكتاب ينقصه كذلك الجزء الثالث الذي تضمّن جزءا من بقية أخبار الحجاز وبقية المقدس، والشام، ثم العودة. وفي “البرنامج” أيضاً مروياته عن علماء هذين البلدين…
ويبتدئ الجزء بعد البسملة والتصلية بذكر “مدينة القاهرة المُعِزِّية حاضرة الديار المصرية، خلد الله تعالى سلطانها وشيد أركانها” كما يصفها التجيبي، وأما آخره فمبتور، ومن تم لا يعلم تاريخ النسخ أو اسم الناسخ. وآخر نص الرحلة الموجود يتحدث عن خروج التجيبي من مكة قاصدا مِنىً في طريقه للوقوف بعرفة، ولا شك أنه يتحدث بعد ذلك عن الوقفة ثم أيام التشريق ثم الرجوع لمكة، فالذهاب للمدينة. ويستنتج الأستاذ الفاضل إسماعيل الخطيب في كتابه “الحركة العلمية في سبتة خلال القرن السابع” (ص: 326) بروح عالية وتقدير كبير للعلامة التجيبي قائلا: “ولا شك أنه يتحدث بعد ذلك عن الوقفة ثم أيام التشريق ثم الرجوع لمكة، فالذهاب للمدينة، ولا أشك أيضا في كتابته بتوسع عن المدينة المنورة، فروح التجيبي الشفافة التي سنلمسها عند حديثه الأدبي الممتع في وصفه لليالي الحرم المكي خلال شهر رمضان، سيكون لها شفوف أيضا عندما ينزل في رحاب المسجد النبوي ويلتقي بأعلامه ورواده”..
ويستند إسماعيل الخطيب إلى قول العلامة بن حجر في “الدرر الكامنة” بعد قراءته لرحلة التجيبي أن هذا الأخير “حذا فيها حذو ابن رُشيد” ليستخلص في كتابه عن “الحركة العلمية في سبتة خلال القرن السابع” (ص: 326) أن هذا أمر صحيح إلى حد ما، وإن كنا نحكم على الرحلة من خلال مجلدها الثاني المبتور، بينما حكم عليها بن حجر من خلال أجزائها الثلاثة الكاملة، ومع ذلك فإننا نقول “أن التشابه قائم بين الرحلتين، غير أن التجيبي زاد على ابن رُشيد في أنه توسع توسعا ملحوظا في الحديث عن مشاهداته، فوصف طريق حجه من قوص إلى عيذاب، ولم يفته الحديث عن الحركة التجارية بين شاطئ البحر الأحمر، كما تحدث عن المآثر التاريخية المهمة التي ربما لم يتحدث عنها كثير من المؤرخين كساعة مسجد ابن طولون التي أقامها السلطان لاجين.. إلى غير ذلك مما لم يكن ابن رُشيد يكثرت له، ولكل منهجه ووجهته..”.
وتقول الباحثة سناء شعلان في مقالها “قراءة في كتاب “مستفاد الرحلة والاغتراب” للرحالة التجيبي” (مجلة “عود الند” العدد 30 (نوفمبر 2008): “إنّ هذه القطعة من رحلة التجيبي سوف تضيف بعض الإضافات للدراسات التاريخية، وتوضّح جوانب لم يكن قد أُتيح لها مثل هذا الإيضاح، فإلى جانب ما توفّرت له من تراجم وافية لبعض الرجال الذين كانوا بمثابة القاصدين من أبناء جيلهم كابن دقيق العيد، الذي سجّل ترجمته أيضاً معاصراه الرحّالة العبدري، وابن رُشيد، ثمّ ما تميّزت به من أنّها توثيق لسند الثقافة الإسلامية، فهي سجلّ لمشيخة صاحبها، لخصّ فيه ما أتى عليه مفصّلاً في برنامجه، إلى جانب هذا وغيره؛ فقد توافرت بيانات جديدة كلّ الجدّة: فقد حدّثنا عن الساعة التي أقامها السلطان لاجين في قبّة جامع ابن طولون على هيئة طيقان من الصفر على عدد ساعات الليل والنهار، تنفتح على حسب مبادئ علم الحيل (الميكانيكا). وهذا لم يذكره مؤرّخ خِطط مصر المقريزي في كتابه “المواعظ” عند حديثه عن جامع ابن طولون، وكتابه “السلوك” ضمن ترجمته للسلطان لاجين. ولعلّ من أدقّ ما اشتملت عليه هذه الرحلة هو الوصف الدقيق الذي أفرده لطريق الحجّ من قوص إلى عيذاب، ومنزلة هذين المدينتين في تجارة آسيا والهند التي كانت منتظمة في هذه الفترة بواسطة تجّار عدن، الذين كانوا يعرفون بين المصريّين بالأكارم… وتحدّث عن قبيلة دغيم التي كانت تتولّى حمايته وشؤون سالكيه، وما يعانونه من عنت مع عجز الدولة عن ردعهم.
تضيف الباحثة سناء شعلان في مقالها: “وإنّ الوصف الذي سجّله لعيذاب وموانيها، وحكمها من طرف ممثّل لمماليك مصر، وملك البجّة الذين يقتسمان جباتها نصفين، والسنبوق الذي كان ينقل الحاجّ عبر بحر القلزم، بقعره المسطّح وشراعه المتّخذ من القصب على شكل مراكب بحر الصين، ليعد من أدقّ الوثائق التي سجّلت في هذا الموضوع. وفي الرحلة إشارة إلى أنّ التجيبي كان يصطحب معه رحلة أندلسيّة، فيتعقّبها، ويحقّق أهدافها، ويعتبر أنّ أوهامها أنجرّت من تقليد العامة فيما يقولون من غير بحث عن صحّته”… وهذه دلالة كبيرة على الحس النقدي عند صاحبنا التجيبي…
ويمكن اعتبار رحلة التجيبي كبيان عمراني بالمعنى الخلدوني لكمة عمران، فهو لا يكتفي بذكر المعاهد والديار بل يدقق ويفصل في المشاهد، ويتحدث عن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثروات الطبيعية والحركة العلمية وروادها وأسانيد العلم والتلقي، ومراكز التحصيل العلمي، كل ذلك وفق رؤية قصدية زادها الأدب العالي الذي تميز بها صاحبنا التجيبي رونقا وبهاء. فقد أفادنا إفادات تاريخية وعمرانية وإنسانية جمة في حديثه عن القاهرة، وانفرد بمعلومات لم يذكرها الرحالة السابقون واللاحقون.
يقول التجيبي في رحلته عن “القاهرة”: “هذه المدينة المحروسة المكلوءة، هي الآن قاعدة الديار المصريّة، وأمّ مدائنها، ودار إمارتها، وكرسي مملكتها، ابتناها واختطفها القائد الأجل، أبو الحسن جوهر، المعروف بجوهر الكاتب (…) والمدينة حافلة بالأسواق، عظيمة الترتيب، تشتمل على خلق كثير، وفيها المدارس المنيفة الهائلة (…) ومارستان عظيم القدر، وفيها جامعات أحدهما في الشرق وهو المعروف بجامع الحاكم والآخر في غربها، وهو دون هذا بالكبر، ويعرفونه بالجامع الأزهر”..
يذكر التجيبي أنّ هناك مقام عظيم يقال أنّ فيه رأس الشريف الطاهر الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما الذي كان قد دُفن فيه، ويتضرعون عنده، ويتباركون به… ومن المشاهد المذكورة أيضاً روضة هائلة بخارج القاهرة مما يلي القرافة، فيها قبر السيدة الشريفة نفيسة ابنة الشيخ السيد الشريف الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.”. فقد كانت رحمها الله تعالى فاضلة. والبناء غاية في الزخرفة والإتقان، وعليه أوقاف جمّة، وله خدّام وقوّام.. وأيضاً هناك روضة زين العابدين بن علي بن الحسين رضي الله عنهم جميعاً، ولها من يقوم عليها، كما أنّ في القاهرة مشهد يقال له مشهد محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما…
وينتقل صاحبنا التجيبي ليحدثنا عن بعض الروضات والقبور التي زارها في مصر وهي: روضة الإمام الشافعي، وقد دُفن في قبتها مع الشافعي ابنا عبد الحكم، وهما عبد الرحمن ومحمد، ودفن فيها الملك العزيز أبو الفتح عثمان ابن الملك الناصر صلاح الدين.. ونستفيد من رحلة التجيبي أنه “في منطقة القرافة هناك روضة الزاهر العابد أبي الفيض ثوبان، وروضة الرحّالة أبو المعالي الأبرقوهي”، الذي يذكر التجيبي كثيراً من أخبار حياته وعلمه وشيوخه، وينقل بعضاً من مرويّاته…
ثم يصل التجيبي إلى قرية الجيزة، وهي قرية كبيرة عامرة، آهلة، بها أسواق نافقة (..) وسوقها الأعظم يوم الأحد، وهي من أعجب ما يُرى. وفيها جامع حسن يتصل به مقياس هو أحد العجائب الهندسية الذي يعتبر فيه زمن مدّ النيل وزمن فيضانه، وهو عمود رخام مثمّن الشكل (…)، ثم ينتقل إلى زيارة أهرام الجيزة، ليصفها ويصف تمثال أبي الهول الذي يسميه المصريون “أبو الأهوال” (الرحلة، ص: 167)..
ثم يعود التجيبي مرةً أخرى إلى القاهرة، ليغادرها في اتجاه الحجاز، ومن جملة ما وصفه مدينة مصر القديمة، ومدينة ابن خصيب، ومدينة أسيوط، ومدينة أخميم في بلاد الصعيد، بعد ذلك دخل التجيبي ومركبه عدّة مدن، منها مدينة المرج، إلى أن وصل إلى مدينة قوص، وقال أن فيها كثير من شجر التوت الأبيض، وكان نزوله في خان المدينة الكبير المسمّى بالفندق المكرّم، وقد احتفى بهم أمير البلدة، وبالغ في ذلك، وذكر التجيبي عدداً من علماء وفقهاء مدينة قوص مثل القفطي كما يذكر شيئاً من أشعارهم…
ويمكن تلخيص المنهج الذي اعتمده التجيبي في رحلته بأنه يذكر المدينة التي يحل بها، وأحيانا يذكر تاريخ تأسيسها ومؤسسها، ثم يذكر من تيسر لقاؤه من أهل العلم، فيذكر ترجمة كل واحد منهم، ويذكر المرويات التي رواها. ومثال ذلك ترجمته لتقي الدين ابن دقيق العيد الذي ذكر اسمه ونسبه وأوصافه العلمية، وذكر مجلس علمه وتحدث عن شيوخه وتحدث عن كتبه وتصانيفه. وتجدر الإشارة إلى أن معاصرَي التجيبي: العبدري الحاحي وابن رشيد السبتي ذكرا أيضا في رحلتيهما ابنَ دقيق العيد وأثنيا على علمه وصلاحه، وهذا الاتفاق إنما يدل على مكانة ابن دقيق العيد وتعبيره تعبيرا واضحا عن ثقافة عصر بأكمله…
تقول سناء شعلان في مقالها “قراءة في كتاب “مستفاد الرحلة والاغتراب” للرحالة التجيبي: “ويذكر للمؤلف أنّه ينقل مشاهدته بدقة شديدة وحيادية واضحة، وهو موهوب في التقاط أدقّ الجزئيات وفي تصويرها، وثقافة التجيبي الواسعة تتجلّى في كتابه هذا، فهو فضلاً عن أنّه يكرّس جلّ رحلته وكتابه لوصف لقائه بالعلماء؛ فإنّه يمدّ كتابه بكثير من التفاسير والآراء والقصص التي تعرّف بثقافته الواسعة بين لغة وقرآن وفقه وتاريخ وتراجم…. ومنهج التجيبي في كتابه منهج وصفي تحليلي يأخذ كذلك من معطيات المنهج التاريخي، وهو في كلّ ذلك يتوخّى الدقة في ما ينقل وفي ما يكتب. وعندما ينقل معلومة عن غيره؛ فإنّه يلتزم بتوثيقها في متن ما يكتب، فمثلاً عند حديثه عن ابن طولون يذكر أنّه قد نقل ما يكتب عن تاريخ الحافظ أبي القاسم ابن عساكر الدمشقي. وكثيراً ما يعزو ما ينقله إلى المؤرخين…”.
ويلخص الأستاذ إسماعيل الخطيب في كاتبه “الحركة العلمية في سبتة خلال القرن السابع” (ص: 328-333) الفوائد الكبيرة التي يمكن استخلاصها من رحلة القاسم التجيبي، فهناك فوائد تاريخية كحديثه عن السلطان منصور لاجين السلحداري، وذكره في مكة المكرمة وجِهاتها إمارة ابن نمى، وكانت تابعة لسلطان مصر، كما وصف حال الأمن وما كان عليه الأمر سابقا من اضطراب حيث كان الحجاج يضطرون للذهاب إلى عرفة دون المبيت بِمِنىً خوفا من إغارة بني شعبة؛ كما أفادنا التجيبي حول العديد من علماء المشرق، ويشتمل القسم الموجود من الرحلة على أربعة وعشرين ترجمة، أحد عشر منها للأعلام الذين لقيهم بالقاهرة وهم: ابن دقيق العيد وبهاء الدين بن النحاس والضياء السبتي وعبد المؤمن التوني والموفق الخرساني وعلي بن هارون الثعلبي وابن الصيرفي وعلي بن ضياء الدين الشافعي وعبد الرحمن بن خليفات الشجاع وأبو المعالي الأبرقوهي والنور اليمني…
واهتمام التجيبي بتراجم الأعلام ينصب بالدرجة الأولى على ذكر مركزهم العلمي، وما استفاده من ملاقتهم .. فالرحلة من هذه الزاوية تعتبر فهرسا مصغرا لما بسطه القاسم التجيبي في فهرسته الكبرى المعروفة باسم “برنامج التجيبي”.. وفيما يتعلق بوصف الأماكن، فلم يكتف التجيبي بوصفها بل عرف بها بشكل دقيق تأسيسا وبنيانا وعمارة، ففي مكة المكرمة، حرص صاحبنا التجيبي على زيارة المآثر التي لها صلة بالرسول الأعظم والدعوة الإسلامية الأولى، فوصف بإسهاب المسجد الحرام، والبيت الذي ولد فيه الرسول الأكرم ودار بن أبي الأرقم، ومقبرة المعلى..
وفي مكة عاين التجيبي شجرة يقصدها الناس ويزعمون أنها التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى أن ذلك غير صحيح: “لأنها قد خفيت على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع معاينتهم لها وقرب العهد، فكيف يعلمها هؤلاء”.. ولما مر بالقاهرة بضريح كتب عليه: “روضة زين العابدين” ابن الحسين قال: وهذا عندي غير صحيح، والله تعالى أعلم، ولم أر من تنبه لذلك..
والجدير بالملاحظة اعتناء القاسم التجيبي بملاحظة بعض الظواهر الاجتماعية وانتقادها كما فعله معاصره من قبله كالرحالة الشهير ابن رشيد السبتي (انظر مقالنا حوله في ميثاق الرابطة، عدد 47). يقول إسماعيل الخطيب في كتابه سالف الذكر (ص: 331-332) أن التجيبي: “لا يمر مر الكرام بما يراه من مظاهر البدع المحدثة البعيدة عن الإسلام بل يصورها كما رآها، ويبين بطلانها، وهذا الانتقاد من التجيبي وابن رشيد يبين لنا تأثر علماء سبتة بالحركة السنية السليمة التي تستبعد كل ما ألصق بالإسلام من بدع وضلالات.. ومن هذه البدع التي شاهدها وحذر منها، ما أحدثه الشيبيون بداخل الكعبة من أمرين باطلين: الأول الكوة التي سموها بالعروة الوثقى، موهمين العامة أنها المذكورة في القرآن الكريم، ولم يفته وهو يرى هذه البدعة أن ينبه إليها مرافقيه؛ الثاني مسمار الفضة القريب من وسط البيت الذي أسموه (سرة الدنيا) وجعلوا العامة يكشفون عن سرتهم ويضعونها على المسمار، وقد دعا وهو في ذلك الموقف الله سبحانه وتعالى أن يطهر بيته الشريف من هذه البدع”…
توفي القاسم التجيبي سنة 730هـ، عن عمر ناهز الستين سنة. رحمه الله وجازاه عن الإنسانية خيرا. والله الموفق للخير والمعين عليه…
-
أخي العزيز نشكرك أولا على هذه الترجمة الرائعة
ونستأذنك في أن ترسل إلي ما توفر لديك من كتاب التيجني
وشكراً -
السلام عليكم
الأخ العزيز الدكتور جمال إذا أمكن ترسلي الكتاب للاستفادة منه ولشحته عندنا
ولك الشكر
التعليقات