الفهرسة عند العرب
بعد انتشار حركة الترجمة التي واكبت الازدهار العلمي في بداية القرن الثالث للهجرة في عهد الخليفة المأمون، والتي كانت أكبر الدوافع لتطور حركة التأليف، والتصنيف التاريخي الواسعة، التي انتشرت في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، كان طبيعيا أن يعقب من يؤرخ لتلك المؤلفات ولمؤلفيها حتى ينتفع بها، ومن ثم كانت حركة الفهرسة.
ومفهوم الفهرسة في العصر الحديث هو: عملية إنشاء الفهارس أو الوصف الفني لمواد المعلومات بهدف أن تكون تلك المواد في متناول المستفيد بأيسر الطرق وفي أقل وقت ممكن، وذلك عن طريق السيطرة على العلوم والمعارف المسجلة والمكتوبة، وتقديمها موصوفة ومنظمة للباحثين والدارسين.
وهناك نوعان من الفهرسة، هما: الفهرسة الوصفية، وهي التي تختص بالكيان والملامح المادية للمواد، والفهرسة الموضوعية، وهي التي تختص بوصف المحتوى الموضوعي للمواد، وقد سبقت الفهرسة الموضوعية الفهرسة الوصفية بخمسة قرون على أقل تقدير، وكان رائدها ابن النديم، وكان أول كتاب في التاريخ الإسلامي قد فتح الباب في مضمار التأليف في هذا العلم هو كتاب “الفهرست” لابن النديم.
إلا أنه لا يخفى على أحد أن أول مرحلة من مراحل البحث والتأليف هي: علم أحوال الكتب، وقد ظهر هذا العلم متكاملا في الربيع الأخير من القرن الهجري، القرن العاشر الميلادي تقريبا، وهو العلم الذي أطلق عليه في القرن العشرين اسم: “البيبليوغرافيا”.
وابن النديم هو أبو الفرج بن إسحاق النديم المتوفى سنة 995 ميلادية ببغداد، وقد اجتهد في أن يخرج للناس كتابا يصف فيه جميع الكتب التي رآها بعينه، أو سمع بها من العلماء الثقات، وأن يكتب نبذة مختصرة عن العلماء الذين ألفوها، وعن مشاهير الأدباء والعلماء الذين كانوا أول من اخترع للعرب علومهم المختلفة، ويسجل عند ذكر كل منهم قائمة بمؤلفاته، وكان يعتمد على التراجم للباحثين العرب، وعلى بعض الكتب حول علماء التراث الأوروبي القديم.
وإطلاق ابن النديم على كتابه اسم “الفهرست” هي تسمية من وضعه، لم يسبق إليها في اللغة العربية ويعتبر “الفهرست” لابن النديم موسوعة علمية تضم مختصرا دقيقا للعلوم والفنون والمعارف بعد تصنيف أجزائها إلى مراتب، وقد استعمل طرقا في تقاسيم العلوم، وبيان مراتبها لم يسبق إليها، إذ كان تصنيفه للمعارف تصنيفا عمليا واقعيا مبنيا على أساس منهجي، يذكر بعد كل علم ما صدر فيه من مصنفات، كما عني عناية خاصة بالإنتاج الفكري الإسلامي، لذلك جاءت المعلومات التي جمعها ابن النديم في “فهرسته” أكثر شمولا.
ويعتبر ابن النديم أول من وضع أساس علم الفهرسة والتصنيف، الذي ترتب بمقتضاه الكتب ويصلح أساسا لتنظيمها في المكتبات، كما أنه أول من وفق إلى التصنيف العشري، وذلك أنه جعله أساس تصنيفه للكتب، وما تحتويه من معرفة، فجعله من عشر مجموعات، تحتوي كل مجموعة منها موضوعا عاما يندرج تحته كثير من العلوم، وأطلق على كل مجموعة من المجموعات العشر اسم “مقالة” ثم قسم كل مقالة منها إلى فروعها، وسمى كل فرع منها “فنا”.
وقد قام بتصنيف الكتب في المكتبات في العصر الحديث، عالم من “علم المكتبات” يدعى ملفيل ديوي المولود بأمريكا، والمتوفى بها سنة 1931 مستخدما نظام ابن النديم العشري في تصنيف موضوعات الكتب، ولكن للأسف فإن “ديوي” العشري بتسعة قرون على أقل تقدير.
وقد قدر العلماء في الشرق والغرب كتاب “الفهرست” حق قدره فيما يتعلق بمعرفة مصنفي العرب وتأليفهم في كل فن إلى أواخر القرن الرابع الهجري، ومعرفة ما ترجم إلى العربية منها.
وقد حذى حذوه في الأندلس ابن الخير أبو بكر المتوفى سنة 1179 ميلادية وذلك في كتابه “فهرست الدواوين” إذ ألقى فيه الضوء لا على تاريخ العرب والإسبان فحسب، بل على تاريخ المشرق أيضا؛ ذلك أنه يحتوي على وصف سبعين خزانة كتب كانت مفتوحة في عصره.
وأهمية كتاب “فهرست الدواوين” تتجلى فيما جمعه مما صنفه المسلمون المشارقة، وما كان من الإنتاج الفكري للمغاربة في ذلك العصر.
وفي منتصف القرن الثامن للهجرة ظهر كتيب صغير في حجمه، كبير في قيمته العلمية هو كتاب “إرشاد القاصد لأسنى المقاصد”، كان هو المرجع المكمل “للفهرست” لابن النديم، وعليهما كان اعتماد العلماء والباحثين للوقوف على العلوم والمعارف في المشرق الإسلامي حتى القرن الرابع عشر للميلاد.
ومؤلفه هو ابن الأكفاني المشتغل بالطب والمتوفى سنة 1348 ميلادية، والكتاب هو عبارة عن رسالة صغيرة صنفت أكثر العلوم التي كانت معروفة في القرن الثامن الهجري بعد أن لخصها تلخيصا دقيقا. فهي بذلك تعطي في وقت قصير فكرة عملية دقيقة عن أكثر العلوم التي كان يدرسها المسلمون آنذاك. أما الخطوة التالية لفهرسة أسماء المؤلفين ومؤلفاتهم، فهي فهرسة أسماء البلدان وأعجامها، وأول من أنجز هذه الفهرسة هو ياقوت الحموي، وذلك في معاجمه عن الأرض والبلدان والأودية والأوطان، يمكن أن نوجزها فيما نصطلح عليه اليوم، بالجغرافيا أو الموسوعة الجغرافية.
وقد واكبت هذه الفترة من التاريخ حركة فهرسة التراجم والطبقات، ويعتبر ابن خلكان أقدم من ترجم لأهم الشخصيات الإسلامية حسب حروف المعجم دون مراعاة للزمن في كتاب “وفيات الأعيان وأنباء الزمان”. وكانت الخطوة التالية لكتب التراجم هي كتب الطبقات، التي بدأت بطبقة الصحابة وأخرى للتابعين وطبقة القراء وأخرى للمحدثين، وطبقة للشعراء وطبقة للأدباء وطبقة للأطباء؛ بل إنه لم يوجد أهل فن أو علم لم توضع في طبقات في تراجمهم.
ومن أقدم من كتب في كتب الطبقات، جمال الدين القفطي المزداد بمصر سنة 1172 ميلادية، وذلك في كتابه “طبقات الحكماء” الذي يحتوي على 414 سيرة من سير الفلاسفة والأطباء والرياضيين والمنجمين الذين ظهروا في مختلف العصور حتى أيامه، وقد رتبه على حروف المعجم.
جريدة ميثاق الرابطة، العدد 804، الخميس 17 شعبان 1418هـ الموافق 18 دجنبر 1997م، السنة الثلاثون.
-
يناير 18, 2012
djidarشكرا جزيلا لكم معلومات قيمة ومفيدة
التعليقات