الفرق بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة
قال الله تقدست أسماؤه: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” [الرعد، 12]، وقال جلا وعلا: “ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً اَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِأيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ” [الرعد، 54-55].
يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى أن التغيير لا يكون واقعا ومتميزا إلا إذا وجهته قوانين التغيير نفسه؛ وأول هذه القوانين أن يبدأ التغيير في محتوى الأنفس ثم يعقبه التغيير في الميادين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وسائر ميادين الحياة، وهذا التغيير القرآني “ما بأنفسهم” له معنى واسع يشمل الأفكار والقيم والثقافة والوعي والتقاليد والعادات، كما يشمل عقيدتنا في هذه الحياة، وطبيعة أهدافنا، وأولوياتنا، ومتطلباتنا.
والقانون الثاني أن التغيير إلى الأفضل لا يقع إلا إذا قام القوم مجتمعين- وليس الأفراد- بتغيير ما بأنفسهم فإذا أحسنوا هذا التغيير على مستوى الوعي والقيم والأفكار والمواقف تبعه التغيير حتما في مجالات الاقتصاد والسياسة والعلاقات. ولذلك كانت وما زالت مسؤولية العلماء والمثقفين في مجتمعاتهم وأقوامهم عظيمة وكبيرة؛ وإنما مسؤوليتهم ورسالتهم نشر الوعي، وتصحيح الأفكار، وإنتاج المعرفة، وترشيد المواقف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر قيم الحق والعدل، ومكافحة قيم الباطل والظلم؛ ولله در الشيخ أبي حامد الغزالي إذ قال: “وبعد؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلى يوم التناد.. وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإن لله وإنا إليه راجعون”.
ولقد أطال النفَس رحمه الله في ذكر العلامات الفارقة بين علماء الدنيا وعلماء السوء أو الفرق بين المثقف الرسالي الملتزم وبين المثقف المزيف قال: “ونعني بعلماء الدنيا علماء السوء الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها” قال صلى الله عليه وسلم “إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه“، وقال عمر رضي الله عنه “إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم، قالوا: وكيف يكون منافقا عليما، قال: عليم اللسان جاهل القلب والعمل” وقال الفضيل: “إني لأرحم ثلاثة: عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر، وعالِما تلعب به الدنيا. وقال الحسن البصري: “عقوية العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة“. وفي الحديث الصحيح “يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلاناً ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه” رواه البخاري ومسلم.
وإنما يضاعف عذاب العالم؛ لأنه عصى في قصد العلم المطلوب كما قال تعالى: “فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به” [البقرة، 88]، وقال في قصة أحدهم “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ” [الاعراف، 175]، حتى قال “فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ اَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” [الاعراف، 176].
والله المستعان
أرسل تعليق