الفاتحون الحقيقيون.. (2)
شيد –الوليد بن عبد الملك– صرح الإسلام في إفريقية[1]، والمغرب وأقام دعائمه على السياسة الحكيمة والسيرة العادلة، فلم يُخشى عليه الانتقاضُ بعد هذه الجهود العظيمة، والمتاعب الجسيمة، وفعلا فقد استمر الحال على ذلك سنين عديدة، انصرف العزم فيها إلى تعمير الخراب وتجديد المندثر. وفي أثنائها فُتحت الأندلس بجيوشِ المغاربة المسلمين الصَّادقي الإيمان، وكان يُظن أنه لما يَرجِعُ السيف إلى غِمده، ينصرف العزم إلى ترقية مستوى البلاد العلمي والأدبي، بعد رقيها عمرانا واقتصادا وسياسة. ولكن خطراً جديدا أصبح يهدد هذا القطر المغربي القليل الحظ، فلم يُتح له أن يجاري الأقطار الإسلامية في النهضة والتجدُّد، والأخذ بأسباب الحضارة والتمدين، بعد أن ضنَّ أنه اجتاز دور الإنشاء والتكوين. ذلك هو خطر الخوارج[2] النازحين إليه من الشرق المضطهدين من حكوماته، حيث إنهم لم يجدوا مجالا فسيحا لترويج بدعتهم، وبثِّ دعايتهم في أمن وأمان مثلَ المغرب. وقد قاسى منهم الأمرين، وذاقَ بسببهم من المحَن والأهوال صنوفا وألوانا، حيث لعبوا دورا خطيرا في حوادثه السياسية وأثاروا فتنا وحروبا، كان كل من العرب والمغاربة في غنى عنها غير أنَّ هذه الحال لم تدُم؛ فقد شاء الله تعالى أن ينجليَ معها كلُّ ضير وضرر على مستقبل البلاد.
فبينما الإيمان متذبذب والشعور الديني آخذٌ بالضعف لبعد العهد بالهداة المرشدين الساري إليهم نور النبوة أمثال عُقبة. وفيما الأقوال والخلافات المذهبية رائجةٌ، ونزاعات الملحدين ووساوس أهل الضَّلالات متسربة إلى نفوس هذا الشعب الفطري السَّاذج، إذ أتى إدريسُ بنِ عبد الله فارَّاً بنفسه من الرشيد الذي اضطهد شيعته الخارجين عليه، وشتتهم شذرَ مذرَ. فكان دخول هذا الفراغ الزكي إلى المغرب فاتحة عصر جديد، طالما تاقت له النفوس واشرأبت إليه الأعناق.
وما وَطىءَ ثرى البلاد المغربية، حتى وفدت عليه القبائل معلنةً بمُبايعته، داخلة في طاعته. فمبدأ أعماله بتأسيس الدولة الإدريسية سنة (172هـ) بمعونة إسحاقَ ابن عبد الحميد الأوروبي وإلى مدينة وليلي، وسعي مولاه راشد. وهي أول دولة عربية مستقلة في المغرب. وبعد أن توطد له الملك، جهز الجيوش واستنفر المقاتلة، وخرج غازيا يضربُ في بلاد المغرب طولاً وعرضاً، حتى دوَّخه جميعه وقضى على حركات الخوارج وسكَّن فِتَنهم المندلعة اللَّهيب، فلم تقم لهم بعدها قائمة. ثم تقدم إلى تلمسان ففتحها سنة (173هـ) ودخلها فنظر في أحوالها وبنى بها مسجدا، ثم عاد إلى وليلي وقد استقام له أمر المغرب، وثمَّ له اقتطاعه من جسم الخلافة العباسية، وإزالة كل سلطة دينية أو سياسية كانت لها عليه، وكان هذا هو ثالث الفتوح الإسلامية.
——————————————-
1. يطلق مؤرخنا إفريقية على المغرب الأدنى والأوسط ونحن نتبعهم في ذلك أحيانا.
2. دخل الدعاة الخوارج إلى المغرب من العراق في أوائل المائة الثانية فبثوا دعوتهم بين المغاربة وتلقاها عنهم رؤوس القبائل ففشت في دهمائهم، وكانت خوارج المغرب إباضيَّة وصُفريَّة، وهما فرقتان معروفتان من فرق الخوارج.
“النبوغ المغربي في الأدب العربي تأليف عبد الله كنون، العدد 1-3 دار الثقافة، ج: الأول، ص: 38-39”.
أرسل تعليق