الفاتحون الحقيقيون..(1)
لم يتمَّ فتح المغرب كله إلا في زمن يزيد بن معاوية سنة (62هـ)، على يد عُقبة بن نافع، ذلك البطل العظيم الذي غامر بنفسه، وأقحمها المخاطر في سبيل نشر الدعوة الإسلامية وبثها بهذه الأصقاع. ففي الحقيقة إن هذا الفتح الأول لبلاد المغرب، وما كان سابقا عنه، إنما هو مقدمة وتمهيد له.
وأول ما فُتح من البلاد طنجة، ثم وليلي[1]، وهما إذ ذاك حاضرتا المغرب، ثم استرسلت الفتوح بعدُ في سائر القبائل المغربية، التي كانت تنقطع الأطماع دونها لتحصُّنها ومناعتها وشدة بأسها، والتي طالما حاولت إيقاف جيش الفتح الإسلامي عند حدِّ، فقاتلها عُقبةُ قتالا ذريعا واستنزلها على حُكمه، ثم تقدم إلى السوس، ففتح تارودنت عاصمته، ومضى لا يلوي على شيء، حتى وقف بساحل المحيط الأطلسي، حيت رفع يده إلى السماء وقال: “اللهم اشهد أني بذلت المجهود ولولا هذا البحر لمضيتُ في البلاد أُقاتل من كفَر بك، حتى لا يُعبد أحدٌ من دونك.. “. فانتشر الإسلام بالمغرب من أقصاه إلى أقصاه، وبدأ يُصارع الوثنية المستحكمة فيه..
وبعد موته اضطرب الحبل، وانتقضَت الأمور بإفريقية الشمالية، وعمَّت الفوضى وغلبت الفِتن وجرت بعد ذلك حوادثُ كثيرة .. فكان من النتائج المتحتمة الوقوع أن توقفت دواليب الحركة الإسلامية، وضعفت العوامل والأسباب الباعثة والمشوِّقة إلى الدخول في الإسلام، حتى ارتدَّ عنه من كان أسلم حديثا، ولم تُخالط بشاشتُه قلبَه.
وفي زمن الوليد بن عبد الملك سنة (87ه) قدم موسى بنُ نُصير والياً على إفريقية، فقبض على زمام السلطة بيدٍ من حديد، وضبط الشؤون واستصلح الأحوال، فأصبحت البلاد تمرح بَحبُوحة الأمن والنظام، وتتمتع بسكينة وطمأنينة لا عهد لها بهما من قبل، فكان هذا هو الفتح الثاني الحقيقي، وقد قاتل المرتدين عن الإسلام، وبذل قَصْره في حملهم على الرجوع إليه، والتمسك بحبله المتين. وكان يشتري العبد يظن أنه يَقبل الإسلام من بعد أن يجرب فِطنته، ويُمحص عقله تم يُمضي عِتقَهُ ويتولاه..
يتبع في العدد المقبل..
————————————————-
1. هذه المدينة الرومانية الأثرية المسماة فلوبيليس (Volubilis) الواقعة بمقربة من زرهون، وكانت عند قوم الإمام إدريس ما تزال عامرة.
النبوغ المغربي في الأدب العربي تأليف عبد الله كنون العدد 1-3 دار الثقافة، ج: الأول
أرسل تعليق