الغفلة وآثارها على مستقبل التلامذة
كل عمل يخلو من التجربة والخبرة النابعة من ذات الأمة، تظهر نقائصه وعيوبه عاجلا أم آجلا، ومرافقة المراهقة تجربة مريرة لمن اعتادها، وهي كرعي الأنعام في عمق صحراء مظلمة ولا ينجح في صقلها إلا من ملك الحكمة، وحاز على عمق الموهبة، وهي من الأشياء التي لا ينبغي أن تظل من المسكوت عنه، أو الموصودة عليه النوافذ والأبواب، ومن ثمة كان الحديث عنها نوعا من المجازفة والمخاطرة، تبعا للرفض أو التخلي أو التبني والمكاشفة، ذلك لأن المراهقين والمراهقات يشكلون ميراثا نادرا قل أن تجد له مثالا في جميع المراحل والأعمار، ولذلك أرى من الواجب أن نخطو نحو بعض المسكوت عنه في شؤون المراهقة بما هو أجدى وأنفع للواقع الراهن، وأن نظل بمثابة السفير فوق العادة لنكون صلة وصل، وجسر تلاق بين جميع الأجيال الغابرة والحاضرة والمستقبلية، في هذه الأيام التي تهدد رياح العولمة الطاغية كل الهويات المهتزة في الأمة، وتوشك أن تهمشها أو تمحوها، ومن المكاشفة ما هو ضروري وصحي لمواصلة السير إلى الأمام قال تعالى: “وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” [الاَنعام، 106].
والعقول الباردة، والغبية المشاعر جعلت من كثير من مدارس الأمة جفافا في العطاء وسطحية في المناهج، والنهم الأحمق للربح السريع والأنانية الغبية اللاعبة فوق أكوام المتمدرسين والمتمدرسات الهاربين بجلدهم من محرقة الدروس الخصوصية وهذا الهدر المدرسي بصوره البشعة يحرق المراهقين وغير المراهقين ليحرق هم الآخرون أنفسهم وما حولهم في جحيم آخر يكوي النفوس والأمة والتاريخ، ولسان حال الواقع يقول: “إِنَّمَا أَشْكُواْ بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ” [يوسف، 86].
والطقس في بلادنا قاس في الصيف قاس في الشتاء، لكنه في هذا الهدر المدرسي والدروس الخصوصية أقسى وأمر، والدليل على ما أقول: أن المدارس تسمح لنفسها أن تغلق أبوابها في وجه الأجيال لتحيل البنين والبنات كالخريف الذي تجف فيه الأوراق وتذبل ثم تسقط وبموتها يتم استبدال الموت بالحياة، والهدر المدرسي بالنسبة للمتمدرسين الهاربين من مقاعد الدراسة كالعرق يخرج من الجلد ليتبخر، وهو ما يسمى بضربة الشمس إذا لم يقدم للمصاب بها إسعاف تميت، وهذا هو الفساد الذي يميت الحياة وينغص العيش.
وهذه الأفكار التي سرقت مهمة التربية والتعليم من المدارس العمومية، لبث سموم الإلحاد واللائكية لإنتاج جيوش من المتمدرسين الشهوانيين والعدوانيين، ليعم المجتمعات الإسلامية أرجاسها وأخباثها ذات بريق فتان، ينخدع به كل مفتون همه من هذه الحياة أن يرضي النزوات ويشبع الشهوات لنشر الفساد العريض، إن هذه الأفكار التي تنتشر في المدن والقرى انتشار رياح السموم من صنيع أولئك الأعداء الذين سرقوا منا أرضنا وخيراتنا واليوم راحوا يسرقون منا فلذات أكبادنا وديننا وأخلاقنا وآدابنا ومن يحملون الأمانة غافلون فلاهم بالنائمين ولا بالمستيقظين ولكنهم في حالة خمود وجمود وغفلة.
والأمة اليوم تريد مدارس تكون الدعوة فيها إلى العلم والمعرفة أساسها الإخلاص لله وحده، حتى لا تكون مصدرا للعلل والأمراض الاجتماعية والنفسية، تنتج أجيالا متشائمة منقبضة النفوس، تفقد تكيفها مع بيئتها الاجتماعية، ولا تكون لأعراض وغايات تنشئ عللا في أصلها تثير الشبهات الفاصلة بين الأجيال وأصولها، وصدق الله العظيم إذ يقول: “وَإِذْ قَالَتْ اَمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً اِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ” [الاَعراف، 164].
وهذه الأفكار تغلق باب الأمل لربط هذه الأجيال بأمتها، وحب الله تعالى الذي فيه التعظيم والإجلال والتقديس للثوابت والمقدسات، بل إنها تزين الشرك والكفر على الإيمان وتحببه وتحفز على التهور، وإن افتقار هذه الأفكار إلى الأصول العامة للثقافة والتربية الإسلامية قد أوقع المراهقين وغيرهم من الشباب فريسة لسلوكية منحرفة، بل هي محضن يفرخ أجيالا غير صالحة، وغير قادرة للاندماج مع مجتمعات الأمة وثوابتها، وهذا السلوك المنحرف ناتج عن قصور هذه الأفكار التي تروج للضحل من الأفكار والدعاوى الباطلة، والغفلة مرض خطير يصيب عقل الإنسان وقلبه، وهي جند من جند إبليس، وإن أزمة هذه الأفكار الحقيقية تكمن في توجه لا يملك رؤية توجيه حاضر ومستقبل تلامذتنا لخدمة الأوطان والأمة، واستجلاء خصوصيتها ومقوماتها، وقد لا تسمح لها بفهم ماضيها الذي سعى الأعداء لدفنه إبان هذه الغفلة المقيتة، والأمة الواعية هي التي لا تثق بتواجد أفكار لا تعبر عن قيم شعوبها.
ومحطات هذه الأفكار المظلمة حصيلة حتمية لخيانة من يفرط في قيم الأمة، ويتلاعب بمستقبل أجيالها ويعرض الأجيال الحاضرة لزحف أجيال قادمة مفرغة من قيمها، ونعت مدارسنا العمومية المخلصة بالوحشية والبدائية والرجعية، ومن خلال هذا العرض ما بالنا ننسى الماضي ونحن نعري عن عيوب حاضرنا، وكيف يمكن استشراف مستقبلنا مع هذه الغفلة، إن قدر أن يكون لنا مستقبل مع هذه الأفكار التي ساهم في إيجادها من اقترفوا خيانة وذنبا في حق أبنائنا وبناتنا، وفي سياق التحولات التي تعيشها الأمة، والشيء الأكيد هو أنه كلما تأخر الجهد لتغيير هذا السلوك المخيب للتطلعات، ازدادت محنته لتصفع الأجيال، والذي أتمناه أن يكون ثمن هذا التغيير قليلا، وفي نفس الوقت فلا يمكن أن نخرج من حمأة هذه الأفكار المشبوهة المزروعة في أوطاننا والمتحالفة مع الشيطان والفاتحة أذرعها للفاسدين والمفسدين، والكل يعلم أن الأولاد هم قرة عين واطمئنان للوالدين أفلا نتق الله ونقول: “وَالذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ اَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا” [الفرقان، 74].
ومن على هذا المنبر أوجه انتباه كل الفاعلين أن يدركوا حقيقة الحياة مع البنين والبنات والغاية منها وأعمار الأولاد محدودة ومعدودة، والأولى أن تظن الأمة أن تضيع أعمارهم في زبالات غريبة لتجني الأجيال مذلة الخسران وهوان الحرمان، والمغفلون والمغفلات لا يدرون أن تضييع أوقات الناشئة جريمة انتحار بطيء ترتكب، وإذا أردتم أن يبارك الله في أعمار هذه الأجيال يجب أن تكيفوا مدارسها مع السرعة هاته، ومع التطور الهائل المذهل الذي تعرفه المعرفة شرقا وغربا، والغريب في الأمر أنه لا يوجد عاقل يمكنه استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير لكن من أقاموا هذه الأفكار وروجوا لها عبثا يحاولون صد الأجيال عن القرآن الكريم والسنة الغراء، لسفاهة وتهالك على الناتانات والسخافات..
وخلاصة القول؛ أنه من حق تلامذتنا في المدارس العمومية وانطلاقا من حق المواطنة أن توفر لهم الرعاية الواجبة في التربية والتعليم والعطاء السخي، والتوعية اللازمة لإيقاف أخطار هذه الأفكار المشبوهة التي أسس لها دعاة من الجواسيس المتسلطين على مستقبل الناشئة في هذه الأفكار المدثرة بالغموض، وعلى رجال ونساء التعليم الأصلاء الأمناء الشرفاء أن يعلموا أن لكل شيء ثمن وخير ثمن يؤدونه للأمة لينالوا رضا الله سبحانه هو أن يغرسوا نور الإسلام وهداه في فكر وروح الناشئة ويحصنوها به لمواجهة الأعداء والمبادئ الهدامة، وأنا أثمن من قال: [جميل أن نرى أولادنا ثمرة كفاحنا وغرس أيدينا منتصبي الهامات، لا يخشون إلا الله وهم يشقون طريقهم في الحياة من نجاح إلى نجاح بلا إعجاب خادع وبلا غرور] وصدق الله العظيم إذ يقول: “هَلْ جَزَاءُ الاِحْسَانِ إِلَّا الاِحْسَانُ” [الرحمن، 59].
والله الهادي إلى سواء السبيل
أرسل تعليق