العلماء والأدب – فريد الأنصاري أديبا
- د. أنور بنيعيش
- باحث في الأدب العربي
علماء الأمة الإسلامية الصادقون زهورها الفواحة بالشذى، ومنابرها الصادحة بالحق، وهم أسرجة الهدى في لجة الضلال؛ ولأن العلم الشرعي مرتبط بالتحكم التام باللغة العربية وعلومها نحوا وبلاغة.. فقد برع عدد كبير منهم في الأدب، وأبدعوا نصوصا في منتهى الروعة شعرا ونثرا، قديما وحديثا. ومن أقطابهم، في المغرب، العلامة فريد الأنصاري دفين مكناس رحمه الله تعالى؛ فقد خلف بالإضافة إلى إسهاماته الكبرى في العلوم الشرعية ومصطلحاتها، أعمالا أدبية مميزة من بينها رواية عودة الفرسان التي نتوقف عندها بالدراسة والتحليل لتجلية ما بها من حذق، ورهافة حس وصدق مشاعر.
كتب الدكتور فريد الأنصاري الرواية في لحظات علاجه بتركيا؛ فكان يتعايش مع الألم بصبر، ويحاول أن يحاصر ظروف المرض القاسية ليخرج إلى الوجود عملا أدبيا، نابعا عن تجربة صادقة، وعن إيمان بما فيه من معان ومن إشارات فنية إلى سبل الخير والنجاح؛ فالرواية وليدة مخاض طويل دام سنة تخللها قدر هائل من آلام المرض المطهرة والمُجلية للقريحة والمصفية للذهن، حيث كان بدؤها وختمها في مستشفى “سماء” بأسطنبول[1].
في هذا العمل المميز يمر بنا العلامة فريد الأنصاري بين محطات عديدة ومتنوعة من حياة الشيخ فتح الله كولن: أحد فرسان الدعاة الذين أثثوا عصرنا الحاضر، وأثروه بنفحاتهم الإيمانية الصادقة، وبصماتهم الراسخة في قلوب المسلمين في مختلف بقاع العالم، فنتجول بنهم وتشوّفٍ في حدائق هذه الشخصية الفذة، ونصاحبها من البدايات في قرية “كروجوك” مسقط الرأس[2]، وانقداح بذرة العشق الإلهي، واشتداد هذا الغرس واستوائه، إلى أن تفتحت أكمامه عن الورود الفواحة التي نشرت أريجها في كل مكان داخل تركيا وخارجه.
ولأن الكاتب معجب أيما إعجاب بشخصية فتح الله كولن، فقد اختار لنصه بنية لا تستقر عند شكل أدبي واحد؛ كما يعترف بذلك بقوله: “ربما كان هذا النص الذي أقدمه اليوم للقراء رواية، أو سيرة، أو ربما كان قصيدة، أو كتاب تاريخ.. لست أدري.. ” [3]، وهذه الحيرة تحمل أكثر من دلالة تحيل على فرادة القالب الفني الذي يؤطر النص من جهة، وعلى ثراء الشخصية المُتحدث عنها، ووزن خطوها الذي يتطلب مؤلفات عديدة لرصدها من جهة أخرى؛ فلا يكفي لذلك مؤلف واحد، لكن مرض الكاتب وإحساسه بدنو أجله جعلاه يفرغ كل طاقاته العلمية والإبداعية في نص يجمع بين همس الشعر، ودقة التأريخ، واستفاضة السيرة، وفنية الكتابة الروائية[4].
لهذا سنحاول أن نترصد بعض المحطات في هذا النص الثري، عبر ثنائية الشكل والمضمون، أو بلغة المتصوفة المكابدين العارفين بالله نستجلي الرؤيا المتسعة في العبارة الضيقة:
جداول اللغة وغدائر المجاز: طواف حول إشعاع الكلمة القرآنية
من اللحظة الأولى لتصفح المؤلف تبهرنا نسائم اللغة الشفافة الرقيقة في جمالها البهي، ويأبى هذا الجمال أن يفارقنا إلا بعد أن نفرغ من القراءة مودعين النص ونحن نتطلع نحو العودة إليه بين الفينة والأخرى لاسترجاع تلك النسمات الطيبة التي تمر من جنان كاتب تشبع بروح القرآن الكريم والأدب النبوي السامي، وبالاصطلاحات الصوفية المليئة بالمجازات، حيث تكثر الإشارات و العلامات التي يتكرر بعضها في النص للتأكيد، وترسيخ الصورة في وجدان القارئ وأحاسيسه قبل ذهنه؛ فترد عناصر نورانية بمجازات دالة على الخير والبشارة والفتح كالفرسان، والنوارس، والحمائم، وأخرى شيطانية بصور من قبيل الأخطبوط والأفعى والظلام.. ومثل هذه الإشراقات البلاغية كثيرة يصعب حصرها أو الإحاطة بها جميعها؛ لكن نموذجين منها كافيان لإيضاح بعض ملامح الجمال اللغوي البارز في كتابة الأنصاري؛ فمن الصور التي تنقل امتداد تأثير فتح الله كولن وانتشار دعوته ما جاء حول إرغام فتح الله كولن على الانتقال المتكرر من مكان إلى آخر حتى لا يألفه الناس، وعجز المسؤولين عن حجب دعوته فقد “كانت كلماته مثل بيض السمك المهاجر في البحار، يضعها في أرخبيل المرجان ثم يرحل، وما هي إلا فترة قريبة حتى تخرج أجنتها إلى عالم الحياة، وتنمو ثم تلتحق بأسرابها الأولى حيث كانت.. “[5].
الصورة هنا شديدة التركيب مبتكرة إلى حد بعيد وتشهد ببراعة صاحبها، وقدرته على التقاط التماثلات من عناصر قلما تحضر في الموروث الثقافي، فالصور العربية في معظمها تنتمي إلى مجال أرضي بما فيه من صحاري وأحراش ومدن وكائنات برية كالخيل والجمل، بينما المجال الحاضن للصورة هنا مائي ينتمي إلى الأعماق، ويسافر في دورة حياة تأوب إلى الأصل فطرة وغريزة، وكأنه يريد أن ينقل –بذلك– فكرة تناسب دعوة فتح الله كولن مع الميول الفطرية إلى الإيمان والطريق المستقيم الذي حاولت العلمانية المدعمة بالجيش إزاحة الأتراك عنه.
وفي صورة أخرى يصف العلامة فريد الأنصاري إشعاع فتح الله كولن الدعوي من منفاه بالولايات المتحدة الأمريكية، فيقول: “صار محمد فتح الله ينظر ليس إلى بلاد الأناضول فحسب، ولكن إلى كل قارات العالم، وعلى مدى نظرته الممتدة إلى البعيد، كانت طيوره الذاكرة تهاجر، وكانت سراياه المجاهدة تسابق أشواقها إلى الجنة“[6].
وبالقدر الذي يضفي الكاتب هالة نورانية على كلماته و صوره التي تصف الشيخ فتح الله كولن ودعوته وأنصاره، يختار صوره التي تصف الجيش والعلمانيين الذين حاصروا الدين وحاولوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم وبنادقهم ومؤامراتهم ودسائسهم، من معجم مظلم معتم موح بظلامية تصرفات هؤلاء، وطرقهم الملتوية، فيشبههم تارة بالخفافيش ويقول عنهم مثلا “وأسقط في يد الجبناء، وارتدت خفافيش الظلام إلى جحورها مذعورة من تدفق النور“[7].
————————————-
1. يقول الدكتور فريد الأنصاري: “وإن يكن شيء من الذكرى أسجله هنا حول هذا المكتوب، فهو أني شرعت في تدوين ملامحه بمستشفى “سماء” في مدينة أسطمبول العامرة سنة 2008، ثم دونت بعضها بعد ذلك ببيتي في مدينة مكناس بالمغرب الأقصى، ثم قدر لي أن أختمها بعد سنة كاملة بمستشفى “سما” مرة أخرى في مدينة “أسطمبول” عودة الفرسان، سيرة محمد فتح الله كولن، رائد الفرسان القادمين من الغيب، فريد الأنصاري”، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، الطبعة الأولى، 2010، ص: 7.
2. يحفل النص بتعقب الإشارات والعلامات الربانية ومنها تلك التي صاحبت ولادة فتح الله، فقبل مولده بيوم واحد مات “أتاتورك”، عودة الفرسان، الأنصاري، ص: 29.
3. المصدر نفسه، ص: 7.
4. تعكس هذه الحيرة أيضا قلق الصوفي تجاه الشكل الأدبي واللغة ومدى قدرته على نقل كل ما يحس به وما يقف عليه من رؤى، مؤكدا صراع المتصوفة مع اللغة قصد تطويعها للتعبير عما لا يعبر عنه كما يظهر في عبارة النفري الشهيرة: “كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة“.
5. عودة الفرسان، م. س، ص: 304.
6. نفس المصدر، ص: 330.
7. نفس المصدر، ص: 333.
أرسل تعليق