العلماء القريبون من معاناة الشباب
أعرف القوم بسرعة إيقاع الزمن وعنف السباق ومن لا يجري ويلهث ويدفع بالمناكب سوف يسبقه آخرون، وفي عالم اليوم وسائل الاتصال الحديثة تقرب البعيد، ولابد من العلم والعمل حتى تظل مشيخة الرابطة المحمدية للعلماء في دورها الريادي الحساس من مراكز العلم، كمنبر للقاءات والمؤتمرات والندوات العلمية بجمالها وذوقها الحضاري الرفيع؛ لأنهم الغيارى على هذا الصرح العلمي الصاعد الشامخ، هم أساطين العلم ورهبانه العاملون المجاهدون، يؤكدون حضورهم بكل برهان يتاح لهم.
وللعلم، ليس مستحيلا التوفيق بين الاستجابة لضرورة التجديد، وتوفير أحدث وسائل الحياة، وهذه الوسائل تتنوع مظاهرها ومجالاتها في صالح الدين والمجتمع، مع إخلاص النية في ذلك كله لله، وبالسلوك والتوجيه يتعين تماسك المجتمع واحترام الإنسان، صغيرا أو كبيرا، رجلا أو امرأة، مسلما أو غير مسلم، مسالما أو محاربا؛ لأنها سلوكات وتوجيهات كلها تنبع من أساس واحد هو محبة الإنسان واحترامه.
وفي حياتنا المعاصرة، كما هو الشأن عند أجدادنا العظام، فإسلامنا يستهدف إخاءا شاملا يكون فيه العلم وموارد الحياة مجال تعاون إنساني، يترجم إلى حياة نابضة، يوجهه الهدي النبوي الشريف يتردد صداها بقوة، وتجد الذيوع والانتشار في كل جنبات أرض الله الواسعة، بفضائه الأرحب العريض، ما دامت الأيدي بأناملها قادرة على أن تمسك بالأقلام، ومادامت العقول قادرة على التفكير، والألسنة قادرة على التعبير، فستظل تتابع عملها من على هذا المنبر المنور بالعلم الوقور، وسيأتي في غد من يجلس على هذا المنبر من علمائنا الشباب، ويتابع العمل دون أن ينقطع هذا العمل يوما؛ لأن قداسة العمل يلتقي عندها العلم والدين والحياة المتقدمة.
ومن الخير أن يتتابع العمل بالشباب، لتكون لهم المشاركة في مراحل هذا العمل جميعا؛ لأن هذا واجب الجميع، وحقه المقدس، وكل حضارة ينبغي أن يكتبها أبناؤها أولا، هم أقدر على التعبير عنها، وهم أكثر إحساسا بها، وهذه طبيعة الحياة والتطور، ولا مجال في الحياة لباحث مترهل منعزل، نحن في عصر الفريق المتكامل، والفرق المتعاونة، شيوخ وكهول وشباب، ومن الخير لعلمائنا أن يوجهوا شبابنا ليعلموا ما في حقول التفكير ودوائر العلم العالمية الآن من اتجاهات.
وإذا تكونت عندنا قاعدة علمية جديدة مؤمنة، فيومئذ تكون قادرة على استقطاب الكثير من طاقات الشباب إلى ما هو أنفع وأجدى، دون أن تنحرف بالدين أو تنحرف عنه، ولا بديل للشباب عن العلم، ولا بديل عن الإيمان لدى الشباب إلا بتوجيه ذوي الخبرة والتجربة للتغلب على عقبات التخلف ومعوقاته.
وتقدم الشباب في ميدان العلم، له لذته ونموه وجدواه، إنه السعادة والتقدم والاقتراب من أسرار الوجود وجماله وخالقه جل وعلا، والتحديات تفرض على علمائنا البصيرين بعصرهم أن يوجهوا طاقات الشباب إلى التعاون العلمي العالمي؛ لأنه الوسيلة التي تستطيع من خلالها الأمة أن تكون على صلة بكل إبداع إنساني، وعندما أتكلم عن العلماء فأنا أعني ذلك النوع البصير من علماء الإسلام في كل مجالات الحياة، الجامع بين البصيرة والتقوى والقريب من معاناة الشباب.
والشباب يحترمون العلماء ويجلونهم بقدر احترامهم وإجلالهم لأنفسهم وللعلم ثانية، حتى لا يقع العلم فريسة لمن يلبس ثيابا مموهة بالحق وهو باطل، وثياب الإيمان وهو زائف، وثياب العلم وهو جاهل، واليوم يرى من كثير ممن ينتسبون إلى العلم فساد الباطن والظاهر، فتدهورت مكانة العلماء الأصلاء الأمناء الشرفاء عند الشباب، ويعلم الله أن العلماء هم حملة رسالة وحضارة يمدون الشباب بالمعرفة، وكل ما ينعش العقل والقلب والوجدان، بجلال العلم ومنبع الحياة الثقافية والروحية، والفيض بالحيوية، وصنع الأحداث على أمل اختزال التطور وربح الوقت، والبدء من حيث انتهى الآخرون، بتجربة خصبة تتحقق من خلالها المعادلة المفقودة بين الأصيل والمعاصر.
نريد العلماء الذين يستطيعون أن يقوموا بأدوار إيجابية سليمة في ترشيد الشباب، من يعيشون للإسلام ودعوته، ويهتمون بقضايا الأمة، الرافضين الانغماس في دوامة السياسة المحلية المتقلبة، أولئك الذين يجعلون أكبر همهم هو تخريج الأجيال من العلماء الشباب الفاقهين لدينهم، البصيرين بعصرهم من: “اِلذين يبلغون رسالات اِلله ويخشونه ولاَ يخشون أحدا إلا الله” [سورة الاَحزاب، الآية: 39].
أما أولئك الذين يعيشون حياتهم لمصالحهم الشخصية والأسرية فهم ليسوا أهلا أن يقولوا لمن يعيشون للإسلام وبه أخطأتم فصوبوا خطأكم، ولو قالوا ذلك لم يجدوا من يسمع لهم، وعلى كل واحد أن يعلم أن الإسلام منهج وسط في كل شيء في التصور والتعبد والاعتقاد والتنسك، والأخلاق والسلوك والمعاملة والتشريع، فهو لا يقبل الغلظة في المعاملة ولا الخشونة في الأسلوب ولا الفظاظة في الدعوة؛ إنه لا مكانة للعنف والخشونة في الإسلام وتعاليمه، والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، يقول: “إن الله يحب الرفق في كل شيء” [رواه البيهقي، والحاكم]، فعلى العلماء أن يعاملوا الشباب بروح من الأبوة والأخوة، عليهم أن لا يحدثوهم من فوق أبراج عاجية مستعلين عليهم أو متبرئين منهم مما يحفر بين العلماء والشباب فجوة واسعة، أو هوة عميقة، وإذا كان الأمر كذلك فالشباب لا يثقون في العلماء ولا يستمعون إلى المشايخ، كما أنهم بذلك لا يستطيعون أن يفهموهم ولا يعرفون أغوار حياتهم ولب مشاكلهم ينبغي أن لا يقف العلماء من الشباب موقف ممثلي الاتهام كل همهم أن يبرزوا مساوئ الشباب، ويضخموا سلبياتهم ويشككوا في نواياهم ويطعنوا في عقيدتهم، وبذلك يلتمسون لهم أقصى العقوبات وأشدها.
إنه يجب أن يعامل الشباب من قبل العلماء بروح الأبوة الحانية، والأخوية الراضية، إن الشباب يجب أن يشعرهم العلماء بأنهم من الأمة، والأمة منهم وهم فلذات أكبادها وأمل حياتها ومستقبلها، وبذلك يدخل العلماء إلى الشباب من باب الحب لهم والإشفاق عليهم، لا من باب الاتهام لهم والاستعلاء عليهم، يجب على العلماء أن يقفوا موقف المحامي عن الشباب، إذا وجهت إليهم سهام الاتهام بحق أو بباطل، ومع حسن نية أو سوءها، وإذا لم يحسن العلماء أن يقفوا موقف الدفاع عن الشباب لسبب أو لآخر، فليقفوا موقف القضاء النزيه العادل، الذي لا يدين أحدا إلا ببينة ولا يتحيز لمدع أو مدعى عليه.
ومن العيوب أن كثيرا من العلماء أنهم في القضايا الاجتماعية يتعجلون إصدار الأحكام على الشباب ويعممونها ويصدرونها نهائية باتة، لا تقبل النقض ولا الاستئناف وقد يفعلون ذلك دون أن يسمعوا إلى الشباب وحججهم كمدعين أو خصوم، وإن كثيرا من الناس يحكمون على الشباب من بعيد دون أن يخالطوهم ويتعرفوا عليهم، ودون أن يعرفوا كيف يفكرون وكيف يشعرون وكيف يسلكون وكيف يتعاملون وينسون أو يتناسون، أن الإنسان بصفة عامة يقوم بمجموع أعماله فمن رجحت كفة الحسنات لديه على السيئات فهو من أهل الخير، وهكذا يعامل الله تعالى عباده: “فمن ثقلت موازينه فأولئك هم االمفلحون” [سورة المومنون، الآية: 102].
ويشهد الله تعالى أني خالطت كثيرا من الشباب وعرفت الكثير منهم، فلمست فيهم إسلاما جديدا غير ذلك الإسلام التقليدي الميت، وإيمانا متدفقا حارا غير ذلك الإيمان الموروث البارد، وإرادة صلبة في فعل الخير غير تلك الإرادة المخدرة، وجدت قلوبا عامرة بخشية الله وحبه، وألسنة رطبة بذكر الله وتلاوة القرآن الكريم رأيت فيهم قوام الليل وصوام النهار، وبالعكس رأيت شبابا مائعا ذائبا لا تكاد تميز الفتاة فيهم عن الفتى، يمشون وراء كل داعر فكرا وأسلوبا، لذلك فأنا أقول افتحوا جميع الأبواب والنوافذ على الشباب وقولوا ما قال أمير المؤمنين سيدنا عمر رضي الله عنه، في النصيحة في الدين: “مرحبا بالناصح أبد الدهر، مرحبا بالناصح في الغدو والآصال، رحم الله امرءا أهدى إلينا عيوب نفوسنا”.
وهكذا كان سيدنا عمر رضي الله عنه، يشجع الشباب ويؤيد كل ناصح منهم له أو مشير عليه أو ناقد لتصرف من تصرفاته، قال شاب اتق الله فأنكر عليه بعض الحاضرين، ولكن عمر رضي الله عنه قال له: “فلا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها” وفي هذا الجو المفتوح الأبواب تظهر الأفكار في النور فيمكن لأهل العلم مناقشتها، وتسليط أضواء النقد عليها فتثبت وتبقى، أو تختفي وتذهب، أو تعدل وتهذب عوض أن تظل في ظلام السراديب التحتية تلقن بلا مناقشة وتطرح بلا معارضة، وتتفاقم وتستفحل يوما بعد يوم حتى يفاجأ الناس بها، وقد شبت عن الطوق، ولم يشهدوا قبل ذلك ولادتها ولا طفولتها، على العلماء ألا يزرعوا الأشواك في طريق الشباب وأن لا يطفئوا الشموع بين أيديهم، عليهم أن يزيلوا ألغام الشك من تحت أرجلهم.
وعلى العلماء أن يوجهوا الشباب إلى حقيقة قائمة أن لا يتجاهلوا عصرهم كيف يتعايشون مع الناس على اختلاف أجناسهم ومللهم ومذاهبهم في الشرق والغرب؛ لأن الإسلام متسامح متفاعل مؤثر ومتأثر يأخذ ويعطي، سهل مرن لين لا جمود فيه ولا تشديد يسع المسلمين وغير المسلمين؛ لأن الله سبحانه يقول: “فلاَ تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اِتقى” [سورة النجم، جزء من الآية: 32].
وختاما نريد علماء دين بلا بدعة، وهمة بلا كسل، وعمل بلا رياء، ونفس بلا شهوة، وقلوب عامرة بمحبة الشباب، والله أسأل أن يرزق علمائنا وشبابنا التوفيق والهدى والسلامة من الزيغ والردى، وأن ينفعنا بعباده من العلماء الصالحين، وأن يجعل شبابنا من المفلحين الفائزين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين آمين.
أرسل تعليق