العقل وسيلة للإيمان بالله
إن العقل البشري قد تطور حتى قارب غايته، فلم يعد ذلك الطفل الذي يروع بالخوارق فيستكين ويستسلم ولا يصلح لصناعة المنطق أو الأخذ بقانون السببية الطيبة لتنطلق قواه المكبوتة تؤدي عملها في الحياة، فأصبح ولا حاجة له إلا كلمة إنصاف وتأييد ترد له اعتباره، وسند يأخذ بيده إلى منصة الحكم حيث يصير هو صاحب السلطان في عالم الفكر والنظر.
وجاء الإسلام فأدى له هذه الحاجة بشطريها، فأحله المحل اللائق به عندما وجهه إلى النظر في الكون لتدبر ما فيه من شؤون، والبحث عن خفاياه وظواهره وتراكيبه، وما قد يكون لذلك كله من علل وأسباب، وجعل ذلك الوسيلة الحقيقية للإيمان بالله تعالى إيمانا راسخا ومتينا، ورسم له الطريق البين إلى كل هذا، وشرع لهم منهاجا لا يمكن أن يضل مادام متماسكا به، هذا المنهاج الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهد طيلة حياته في تقريره وتثبيته، وبعد الخلفاء الراشدون ومن بعدهم، ولازال إلى اليوم ماثلا في كتاب أحكمت آياته تم فصلت من لدن حكيم خبير، وسنة واضحة صحيحة، وأصول عامة استنبطها المجتهدون من الكتاب والسنة، فكانت فقها إسلاميا وتشريعا انتظم كل جوانب الحياة، وشمل حاجيات المخلوقات جليلها ودقيقها، اعترف به كل من أوتي قدرا من الإنصاف، أسسا صالحة لأي بناء تشريعي يراد له الخلود ويرجى من ورائه خير الإنسانية.
إن الإسلام قد حرر العقل من قيوده وأتاح له أن يتنسم أريج الفكر خالصا من كل خلط وصافيا من كل كدر، فالتحرر الفكري كما رسمه الإسلام هو التعبير الواقعي الصافي الصادق عن الاعتراف بالعقل ووضعه في موضعه بين الملكات الإنسانية.
وهناك عوامل تكتنف سير العقل من أحكامه وأبحاثه، وكثيرا ما نُقوم منها العواثر التي قلما ينجو معها من السقوط والزلل، وأهم تلك عوامل الانفعالات النفسية والاضطرابات العصبية التي لا يجهل أحد منا آثارها في شعب الحياة الاجتماعية والعقلية والأدبية، ومن الغلط أن نبرئ أنفسنا أو ندعي بلوغ الكمال في شيء من أفكارنا وأحكامنا وعواطفنا مادمنا نجمع بين جوانبنا نفوسا جامحة، إلى قلوب متقلبة، إلى شهوات مطاعة، إلى هوى متبع.
فالدين ضروري لأصحاب تلك الأهواء المتقلبة والنفوس الجامحة، لذلك ولكي نسلك بالناس أحسن طريق وأقومه وأسلمه، يرسل الخلق صفوة خلقه بالهدى ودين الحق رحمة بعباده أن تزل أقدامهم وتضل أحلامهم وتفتنهم أهواؤهم وتضيع مئات السنين في البحث عن الفضائل والكمالات..
فالإسلام هو نظام إلهي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا ينكر خاصية العقل ولا يغض من قدرته على الفهم والإدراك، بل إنه ليشحذ همته ويمهد الطريق أمامه، ويكلؤه بالرعاية والحفظ حتى يصل إلى الغاية من أقرب الطرق وأسلمها.
وقد أيد المرسلون السابقون بمعجزات مادية روع بها العقل البشري، حينا ما، فآمن لا عن تفكير ونظر وإنما عن قهر وغلب، شأن كل متحدي ينزل عند رأي خصمه، بعد أن تروعه منه حجة لا قبل له بمثلها، كانت المعجزة وقتذاك عملا خارجا عن طبيعة الدعوة ولا صلة له بها إلا كونه وسيلة إلى التصديق في النهاية.
فما كانت مهمة موسى عليه السلام أن يقلب العصا حية أو يشق في البحر طريقا أو ما إلى ذلك، وما أرسل عيسى عليه السلام ليحيي الموتى أو ليخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طائرا.. وهكذا يقال بالنسبة لصالح وهود ونوح وإبراهيم وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.. وإنما كانت مهمتهم جميعا في الدعوة إلى عبادة الله تعالى ونبذ جميع الآلهة المزعومة، وكانت معجزة الإسلام الكبرى من صلب دعوته وصميمها، كانت في القرآن الكريم الذي توجه مباشرة إلى العقل البشري يخاطبه ويفك عنه إطاره ويرد إليه اعتباره.
اللهم اجعلني أحبك بقلبي كله وأرضيك بجهدي كله.
جريدة ميثاق الرابطة، العدد 750، الخميس 4 جمادى الثانية 1417هـ الموافق 17 أكتوبر 1996م، السنة التاسعة والعشرون.
أرسل تعليق