Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

الطفولة جسر بالوعي يعبر

      قلب الأمة النابض وعقدها الرابط بين الماضي المجيد، والحاضر المتفاعل والمستقبل المتطور المتطلع نحو آفاق الحياة هم أطفالها، فلنجعلهم في صلب العصر وأحداثه، بما يؤهلهم ليعطوا أهلهم وأمتهم خير ما يعطيه النابهون من عمل جليل، لخدمة الإنسانية في جلائل الأمور، ليل نهار، صيف شتاء، من عام لعام بمعرفة وخبرة، في أدب أو فن أو علم أو سياسة أو دين، منزلة تعرف الأمة بها غايتها، ويكون الرائد والقائد والمصلح الأجيال الصاعدة من الأطفال، عودا بالإسلام إلى ينابيعه الصافية، بفهم صحيح متكامل خالص من الحشو والشوائب والفطر الضار، جيل من الأطفال يعرف نفسه، ويعرف ربه، يبصر الهدف، ويبصر الطريق، جيل يراقب قوانين الله في كونه، كما يراعي أحكامه في شرعه بالصبر الجميل، والنفس الطويل، جيل يعرف عصره ودينه ودنياه، جيل من الأطفال يمثل الصفوة، ويجسد القدوة، يقول بقول الله عز وجل: “قل اِن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين” [سورة الاَنعام، الآيتان: 162-163].

      وأطفال الأمة اليوم أكثر عددا وهم في الغد الشباب والرجال، والحياة إنما تصنعها وتجري بها إرادات الرجال، وعلى قدر العدد، وعلى قدر الكفاءات والكفاية ترجى النتائج، والأطفال هم صباح الأمة، ونحن الأشياخ مساؤها، والمساء خبرة طويلة ثمينة، كادت أن تغادر مولية إلى المجهول، والأطفال صباح مشرق ينتظره الدرب الطويل، وهم عما قليل يكونون أكفى، ولكنها كفاءات وكفاية غير كافية، والشيخ هو من تغيب عليه الشمس، ومن غابت عنه الشمس في هذه الحياة ليس له رجوع.

      وعلى قدر نضج أطفال المجتمع يرجى تحقيق الآمال، وزمان أطفال المسلمين قد يكون أعسر من زماننا، إذا قارنا زمان بزمان، وقد تسألني عن جسر حياة الأطفال، عن مبتدئه، فقد أقول لا أدري، وقد تسألني متى منتهاه، وقد أقول لك لا أدري، ولكنه على كل حال جسر أنا موقن أنه لم يوضع في دنيانا عبثا، ذلك أني ما عرفت قط جسرا أقيم حيثما أقيم عبثا، ولكنه جسر لابد أن يعبر، وصدق الله إذ يقول: “أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون” [سورة المومنون، الآية: 115].

      وهنا أعود فأقول: إذا أنتم قارنتم زمانا بزمان، فقارنوا بين أطفال الأمة، وأطفال الأمم الأخرى، فكفاية أطفالنا لا تفي بحاجات هذا الزمان؛ لأنه من سوء ظننا نحن الآباء، ومن سوء حظهم هم الأبناء، أننا أمة بين أمم غفت كثيرا، ونامت طويلا، ثم فتحت أعينها على وجه من الأرض تبدل، وحال من سكان هذه الأرض قد تغير، فأمم وشعوب كانت متخلفة سبقت، وأمم وشعوب كانت متقدمة تخلفت.

      وأمران استجدا على وجه هذه الأرض، ونحن في غمرة ساهون:

       •  أمر أسماه أهله علما؛

       •  وشيء أسموه صناعة وتكنولوجيا.

      والتفاعل في الفكر الإنساني قلب شؤون الحياة رأسا على عقب، وتحددت الأشياء في هذه الحياة بما لم تكن تحددت على منواله من قبل، وأطفال العالم المتقدم صار لهم حقوق من تعليم ورعاية وعناية، وأطفال الأمة ما ذنبهم حتى يعيشوا بمعزل عن أطفال هذا العالم السائر، في العالم الجديد، والمدنية الجديدة العارمة، ولو أننا شئنا عزلهم لم نستطع، إن هذه المدنية بالنسبة لأطفالنا كالماء يعطي الحياة، أو يغرق، بل إنها كالبحر الذي فاض وأخذ يتسلل فيضه إلى كل بقعة مجهولة معزولة من سطح هذه الأرض، لن ينجو منه من أهلها إلا ذو سفينة، فالذي لا تكون له يذهب إلى القاع، وهنا أقول متسائلا فأين هي سفينة أطفال المسلمين؟

      والعصر اليوم عصر ذرة نال العقول من لهيبه لهب، وسماء أطفالنا اليوم بها هدير يصل إلى بعض الآذان فتحسبه بشير خير، وهو يصل إلى بعض الآذان فتحسبه نذير شر، وما أكثر ما تختلط النذر والبشائر، وما أكثر ما تحتار مع هذا الهدير العقول، وإذا لمع البرق وقصف الرعد، قد يكون من وراء ذلك، ري ينتظم الأرض جميعا، وقد تكون الصواعق التي تحرق، والسيول التي تغرق الحرث والنسل، والعقلاء الغيارى من رجالات هذه الأمة، لا يريدون لأطفالها أن يحرقوا أو يغرقوا؛ لأنهم يعلمون أن المستقبل مليء بإرهاصات يتقدمها برق ورعد، فإلى هؤلاء أقول: أن يسلحوا البنين والبنات بالوعي الموجب، بدل هذا الوعي السالب، فالوعي ذو الإيجاب هو وعي الأطفال بما يراد بهم وما يراد منهم، أما وعي ذوي السلب فأشبه بوعي الحالم، وهؤلاء وعيهم كالحالمين يتركون المقادير تسوقهم إلى حيث تشاء، لا إلى حيث هم يشاءون.

      وأما وعي ذوي الإيجاب فهو وعي اليقظ أتم اليقظة، فهو يخطط لحاضر الأطفال ومستقبلهم، ولا يترك الزمن يخطط له، والإنسان الواعي هو الذي يفرض إرادته فرضا حتى تصبح إرادته من إرادة الله تعالى، والآباء الواعون بما ينتظر فلذات أكبادهم، هم رجال يعرفون مواهب أطفالهم، وعبقريتهم لا تنضج إلا على نار هادئة فاترة، هي نار العقل والمنطق المتسلح بشرع الله قرآنا وسنة، لاكتشاف جوهر الأطفال كإرادة قادرة على الاستجابة للتحدي، ورجال الإرادة هم مسار لقذائف طويلة المدى، قذائف خير وبركة، يطلقها الوعي والتثبت، وهم أهل معرفة هدفهم الإتقان والجودة، بالذكاء والوعي وتراكم المعلومات.

      إن القضية التي أريد طرحها، هي قضية التواصل بين الأجيال، برؤية إمكانات التناغم، وفعاليات البناء في مساحة رحبة، لا تميع التفاصيل ولا تهمل المساهمة البناءة كما نراه في الحاضر والماضي والمستقبل، في متوالية الزمن، والتواصل يشعر بجلاله الأطفال والكبار في تفاؤل وصفاء، في عصر مخاضه عسير، لولادة جديدة، لأمة تختلجها الفرحة والسعادة الكبرى، في مبعث قوة أمة الاستجابة، تطمئن إليه أنس الإنسانية الحائرة لتجسيد التفاؤل، وإرادة الحياة الكريمة لكل أطفال الدنيا.

      وقد يطول بنا الحديث إذا تتبعنا الفرصة الذهبية الضائعة، في تاريخ حياة أطفالنا البعيد والقريب، وهذا أبو جعفر المنصور العباسي رحمه الله الذي أثر عنه أنه كان لا يصدر إلا عن تفكر، ولا يمضي إلا بعد تدبر، وكان ذلك ما أوصى به ولده المهدي قبيل وفاته حين قال له: [يا بني خذ عني اِثنتين: لا تقل من غير تفكر، ولا تعمل من غير تدبر]، وقلما تخلو حياة الأمم والشعوب من بعض الكبوات، وما تخطت أمم من الأمم مثل هذه المرحلة، إلا بفضل الوعي المستنير والحزم وحسن التدبير، ولله المنة وله الحمد فلا زالت في الأمة أياد وعقول تصنع المستقبل، من براعم وزهور أطفال هم في نظر العقلاء (كنز) دافق بالعطاء والبذل والتواصل، واستعادة الدور والفاعلية للسير على درب المتقدمين، بالإضافة إلى التجديد والإثراء أسوة بالأطفال السعداء في العالم.

      ولا ضير علينا في شيء من هذا أن يسهم أبناؤنا في دنيا الحياة المعاصرة، متأثرين بأطفال العالم المتقدم، فأسلافنا عليهم رحمة الله، قد صنعوا الصنيع نفسه، فقد لقحوا مبادئ بمبادئ وأفكارا بأفكار، ومثلا بمثل، ولا نريد سوى أن نكون خير خلف لخير سلف.

      وأطفال القرن الحادي والعشرين، يحاولون أن يخرجوا من إطار الواقع الذي يعيشه آباؤهم، فينتقلون بخيالاتهم إلى ما وراء الطبيعة، وفي بعض الأحيان، إلى خارج حدود مدارك الإنسان العادية، وهم يستعملون أدوات من الواقع الذي يعيشون فيه بصياغة لا يعرفها سواهم، لذلك فهم يقولون: هل علينا أن ننقل من حضارة الغرب أفكارها وفنونها وتكنولوجيتها، أم علينا أن نحيي تراثنا، ونبحث عن جذور حضارتنا القديمة؟ وهنا يجب أن ننبه أبناءنا، أن النهضة الحقة إنما تحدث بسبب إيمان بالغ القوة بعقيدة تضع الحلول للمحن المعاصرة الكبرى، أما النقل والمحاكاة فمهما بلغت قيمة المنقول فهما يشيران إلى ضعف الثقة في النفس.

      والفارق الكبير بين الأطفال والكبار، هي هذه المسافة الطويلة والمساحة الكبيرة، بين المربي والأجيال الصاعدة في الوعي وعدم وضوح الرؤية، ومرونة الحركة واتساع الأفق، وفقدان الإدراك لعظم الغاية التي تنتظر الأطفال.

      وإنما ما يحتاج إليه أطفالنا في الوقت الحاضر وأمتنا تمر بأخطر مراحل تاريخها العربي والإسلامي، أن تعمل الأمة على ما يوقظ همة أطفالها ويؤجج حماستهم، ودفن كل ما من شأنه أن يشيع اليأس عن طريق إلقاء اللوم على الآخرين، وهي مغالطة، فهناك عصور من تاريخ هذه الأمة، تميزت فعلا بالتألق والازدهار، سببهما الأول: هو الاتحاد بعد الانقسام، والتجمع بعد التشتت، وأنا من هذا المنبر أدعو بغية إصلاح المجتمعات الإنسانية، وتخليصها من الآفات المعيقة، بالتعاون سوية مع كل الأمناء الشرفاء في هذا العالم، لنبدأ بهذا الإصلاح مِنَ الآن، ولنطبقه على أجيالنا الفتية الصاعدة، في المدرسة والبيت والمسجد والنادي، مع تبيان كل الخصال الفاضلة في المجتمع وغرسها في نفوسهم.

      وختاما فالأطفال هم وجه الأمة الأول، لذا يجب أن يختار مربوهم من أكثر الناس أدبا، وأرقهم مزاجا، ورحم الله الشاعر العباسي ابن أفلح عندما قال:

          وألـــق زمــامـهـــا بيـدي لبيب          كريـــم العرض واليـد والنصــاب

          بصيــــر بالعــــواقــب هذبـتــــه          سجايـا لا تضيف إلى التصابي

      ولعل في رجالنا اليوم من يتجه بنيته إلى احتضان أبناء الأمة وبناتها، وبنائهم البناء المتين الدقيق والله تعالى أسأل أن تتحقق الآمال بعونه وتوفيقه، في البراعم الصاعدة لتتوج الأمة بتاج الإجلال والإكبار، وشكراً لله، لأسرة ميثاق الرابطة حسن صنيعها وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أرسل تعليق