الطفل في عالم متغير
قال الله تباركت أسماؤه مخبرا عن سيدنا إبراهيم عليه السلام: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اَغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُومِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ” [ابراهيم، 41-43]، وقال: “وَلْيَخْشَ الَذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا” [النساء، 9].
ينظر الطفل في سنواته الأولى إلى الحياة من زاوية الإنسان الضعيف الذي حل في مكان غريب مجهول فهو أحوج الناس إلى من يزرع الثقة في نفسه، والأمان في قلبه، والاطمئنان للبيئة والشخوص التي تحيط به، ولا يستطيع أحد أن يقوم بهذا الدور غير الوالدين، حتى إن إطعام الطفل من قبل الأم أو الأب ينشئ عنده حالة من الثقة بالعطف والرعاية فتتوثق علاقته بأبويه.
إن الطفل عندما يرى أبويه يقيمان علاقة زوجية طيبة في البيت، ويحس بدفء قيم الأسرة القائمة على معاني المودة والرحمة والاحترام والتفاهم؛ فإنه يكون أول من يتأثر بذلك، ويستفيد من ثمراته في تكامل شخصيته الإنسانية والاجتماعية والنفسية.
والطفل في جميع مراحل نموه يحتاج إلى قوة عاطفية معنوية يستمدها من الأسرة؛ فالأسرة هي التي تمده بقيم الأمان والحب والرحمة التي يفتقر إليها، والعلاقة الزوجية المتينة، والجو العائلي الآمن أول شروط الشعور بالأمان لدى الأطفال، وإزالة خوفهم من فراق أحد الأبوين أو شجارهما أو نزاعهما، والإسلام بآدابه السامية قد أمر بذلك كله، فنهى الرجل عن إظهار الكراهية لزوجته أو تقبيحها أو شتمها على مرأى ومسمع أولاده، ونهى عن أسباب الشجار والخلاف والبغي، وأمر الزوجة ألا تدخر وسعا في الإخلاص لزوجها واحترامه ومعرفة حقه، ونهاهما معا عن الخيانة، وإرضاء الشهوة بغير العلاقات الزوجية المشروعة، وأمر بالاستئذان وستر العورات كل ذلك من أجل حفظ براءة الأطفال، وإشعارهم بالأمن والثقة والاستقرار.
أخطر شيء يعانيه أطفال العالم اليوم هو انهيار الأسرة، وأعراض هذا الانهيار وآثاره رهيبة ومحزنة. ففي بلادنا، تصاعدت بشكل خطير نسبة الطلاق، وهناك الآلاف من الأمهات اللائي يتحملن وحدهن تنشئة الأولاد نتيجة لغياب الأب لسبب أو لآخر، وهذا يفضي إلى وجود كثير من الأطفال المضطربين نفسيا واجتماعيا. ويترتب على شعور الطفل بالانتماء إلى أسرة هشة أو مفككة، وشعوره بأنه غير مرغوب فيه زيادة عدد الأطفال الذين يعانون من الاكتئاب، والتحاقهم مبكرا بطابور المدخنين والمدمنين ومشردي الشوارع، ويرى الطفل من خلال وسائل الإعلام قبل بلوغه سن الرشد ملايين الصور عن جرائم القتل والاغتصاب والاعتداء بالضرب، وأنتم تعلمون أن الطفل الحديث ما هو إلا رضيع الشاشة الصغيرة يقضي حوالي 30 ساعة أسبوعيا أمام التلفزيون والكمبيوتر ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراه.
فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا.. “[1] -ليس منا- ليس من أهل الكمال منا من لم يرحم الصغير بالشفقة عليه والإحسان إليه”، وقالوا: -ليس منا- يعني ليس على طريقتنا “من لم يرحم صغيرنا” لعجزه وبراءته عن قبائح الأعمال، وقد يكون صغيرا في المعنى مع تقدم سنه لغفلته وجهله، فيرحم بالتعليم والإرشاد والشفقة “ويوقر كبيرنا” يعني إعطاء الكبير حقه من الشرف والتوقير، كما قال صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى ويعرف شرف كبيرنا” بما يستحقه من التعظيم والتبجيل وعليك برحمة الخلق أجمعين، ومراعاتهم واحترامهم كيفما كانوا فإنهم عبيد الله وإن عصوا، وخلق الله وإن فضل بعضهم على بعض؛ فإنك إذا فعلت نجح سعيك وكيفما أمرك، وفي الحديث ما من شاب أكرم شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه.
الطفل كما يحتاج إلى الرحمة والرفق والحنان يحتاج إلى الاحترام والتقدير، كان عليه الصلاة والسلام يسلم على الأطفال ويجعل لهم صفا أو مكانا في المسجد يصلون مع الجماعة خلف الرجال ثم تأتي بعدهم صفوف النساء؛ فإذا نبغ الطفل في أمر من الأمور، وجب أن يأخذ مكانة اللائق به في الجماعة كما وقع مع عمرة بن سلمة “كان في المدينة قبل هجرة رسول الله، فتساءلوا عن الصلاة، فقام قائلا: جئتكم من عند نبي الله حقاً قال: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حضرتكم الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا، قال عمرو بن مسلمة: فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً فقدموني وأنا ابن ست أو سبع سنين”[2].
وقال سيدنا عمر رضي الله عنه لابن عباس: “قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك”[3]، وقال أنس بن مالك: وقد نشأ صغيرا في بيت النبوة: “ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شممت ريحا قط أو عرفا قط أطيب من ريح أو عرف النبي صلى الله عليه وسلم”[4]، وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قال: “إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِير: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ”[5]، وفي هذا قدوة للمربي أو الأم أو الأب ألا يتعالى على أبنائه أو طلبته بل يخالطهم ويفهم مشكلاتهم ويهتم بأمورهم، وينبسط معهم، ويستميل قلوبهم: فالطالب الذي يكره معلمه لا يستطيع أن يستوعب مادة الدرس، والمدرس الذي يتعالى على تلامذته لا يستطيع أن يكون أستاذا ناجحا، وكذلك الأب مع أبنائه والأم مع أولادها؛ فإن بناء العلاقة معهم على الاحترام والحب والتفاهم أوقع في تربيتهم وتعليمهم، فإذا أردت أن يطيعك ابنك افهم في البداية مشاكله والأمور التي يعاني منها اظهر تعاطفا معه، فهو أحرى أن يستجيب لك وهذه الاستجابة لا تأتي إلا إذا صرف الأب وإلام وقتا مديدا في الحوار والحديث والتواصل.
——————————–
1. سنن الترمذي “كتاب البر والصلة” عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “باب ما جاء في رحمة الصبيان” ح: 1921.
2. صحيح البخاري “كتاب المغازي” ح: 4051.
3. صحيح البخاري “كتاب تفسير القرآن” سورة البقرة باب قوله “أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب” إلى قوله “لعلكم تتفكرون”، ح: 4264.
4. صحيح البخاري، “كتاب المناقب”، “باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم”، ح: 3368.
5. صحيح البخاري، “كِتَاب الْأَدَبِ”، “باب الِانْبِسَاطِ إِلَى النَّاسِ”، ح: 5693.
-
التربية الصالحة منبعها الأسرة والتربية الفاسدة منبعها الأسرة كذلك ..
-
جراكم الله خيرا
-
فضيلة الدكتور
إن سلوك الطفل سواء كان حسنا أو سيئا ينبثق من التربية الأسرية، وفي بعض الاحيان قد يلجأ الوالدان إلى تقوية السلوك السيء للطفل دون ان يدركا النتائج السلوكية السلبية لهذه التقوية، ولهذا فتربية الأطفال تحتاج إلى منهجية تربوية إسلامية سمحة فهي أساس نجاح الناشئة..
التعليقات