الضعيف في دنياه فقير.. (2)
وقبل أن يتحرك ركب الأمة المترنح المثقل بالهموم والمشاكل، ينبغي أن تصحو الضمائر لطرح الجو المأساوي جانبا، ليحلق الشباب برؤاه عبر منافذ يبصر منها بعقله وفكره ويرى الحاضر والماضي والمستقبل، لكن قد يتساءل البعض: ما شأن الشباب ورؤية المستقبل، والمستقبل أحداث مسطورة على صفحات الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله وحده، والجواب دعوا الشباب يمعن في الرؤى ببصيرته وتصوراته الزاهية؛ وإذا انطلق الشباب من قيود الحرية إلى صميم الحرية؛ فإنه يمضي وهو يرسم تصوراته للحياة بإرادة ملتهبة وشعور متأجج، وهذه المنافذ التي يبصر منها الشباب ويطل على الدنيا تمكنه بأن يأتي بالعجب العجاب، لمواجهة الهجمة الشرسة لعالم متغول لا يعبأ بالقيم والأخلاق، وإنما همه المصالح في الاقتصاد والتصنيع، والتصنيع الحديث أصبح أهم السمات المميزة بين الأغنياء والفقراء، وبين القدرة والهيمنة من جهة، والضعف والتبعية المقيتة من جهة أخرى.
والعمل لم يكن يوما هو السبب في شعور الأمة بالإحباط الذي ينتابها بالتعب، إنه الإحباط الذي تحس به نتيجة لعدم قيامها بأي عمل نافع لها ولغيرها، بل قل هو الافتقار إلى إنجاز هام، والإحباط الحقيقي نشأ عندما عجزت أن تجد لها عملا مثمرا تقوم به تقدمه للإنسانية وهي تغرق في بحر الحياة الذي ينزل بها إلى القاع، ولا تعرف ما وراءه، لقد حكم علينا بالخوف المرعب، ونحن نواجه العاصفة الجارفة فانكشفنا عراة أمام السائرين، خائفين وجلين مسلوبي الإرادة، ننتظر ونستسلم للقدر يفعل بنا إرادته، وأعيننا الزائغة تهرب من حولنا، لقد حاصرتنا تسويفاتنا، وأدركنا أننا مجرد أشباح في بحر من الرمال الحارقة عاجزين عن التفكير، وغير قادرين على أن نتجمع ونحن نودع شمسنا الغاربة لتلفنا أسداف أوليات العتمة، سكون مريب في ليل التخلف ندور حول أنفسنا، وفقدان الأمل موت محقق، وما يجدي الدوران.
ومن لا يشارك الآخرين حياتهم ويهتم بهم ويبني معهم صرح الحضارة، لا يلبث أن يتلاشى أو يعلوه الإعياء فيطرح تدوسه الأقدام كالعجوز المريض، ومن لم يحول خريفه إلى ربيع أنى له أن يحصل على الزهور والثمور؟ وكيف له أن يعرف معنى الأمل والحياة؟ وإذا ولت الحياة فلن تعود، ومن حاله هذه فهو كسيح ضرير يعيش مع الأحزان لن يقوى على الوقوف، لقد اختار أن يعيش مع الماضي إلى الأبد، إن أمتنا كعامل في مناجم الفحم السوداء لا وجود للنهار لديها، سمعة سيئة كئيبة شاحبة سجينة ترهات قفص مروع رهيب، رهيب جدا تحيا في قلب الألم.
وعلينا أن لا نجهل زيف حالنا ومجريات عصرنا، علينا أن نقول لأنفسنا إننا نحيا في قلب الألم، لكن الأجيال القادمة ستتنفس حياة أكبر لإخراج الأمة من المجهول المظلم إلى النور بعقل جديد، يدير الحياة بذكاء وحس يتفق وتطلعات الناس وحاجاتهم الجديدة، ذلك أنه لم يعد هناك فارق كبير بين حيرة الإنسان العادي، وحيرة الخبير بالشؤون الإنسانية؛ لأن كليهما يشهد أفعالا لا يجد لها تفسيرا منطقيا أو علميا للوضع الراهن الذي يكبل الأمة، والعالم يمر منذ فترة بمرحلة انتقالية تغيرت فيها قواعد السلوك الدولي وتبدلت أولويات ومسلمات وفرضيات، واسترخت اختيارات وتفككت تكتلات، وأصبح واضحا ما يمثل تطرف الهاربين من جفاف الحياة الأخلاقية، وعلى الأمة أن تختار أن تكون أو لا تكون، لكن لابد من المغامرة لنربط أنفسنا بنظام تحالفات مع الآخر للقضاء نهائيا على الطفيليات الضارة اجتماعيا واقتصاديا وحتى سياسيا التي تعطل النمو التدريجي للأمة.
وليس هناك معصوما من الخطأ، لكن الأفكار المتلاقحة ستكون الهادي للإنفلات من الحيرة؛ لأن الظرف الحالي يقول: هذا موعد المد الكبير وعلام الانتظار والطريق معبد للمسير لاقتلاع جذور التردد والتواكل وزرع الغد الواعد بأنواع البذور؟ والمساهمة في مضمار الحياة مساهمة منا كإضافة لما حققته الإنسانية من تقدم، وإرخاء الستار على فترة الجمود باختيار موقف إنساني شجاع، فقد حانت اللحظة التاريخية الحاسمة، وهكذا لن تكون لنا مشكلة فها هو الجديد قادم، وها هي أعلامه بادية في الأفق، وهذه أصداء طبوله وبيارقه تتردد من بعد، فغدا تزقزق عصافير الفجر الباسم، وما عدا ذلك فمضيعة للوقت والجهد.
وكل مسيرة في هذا الاتجاه معيارها الالتزام بقيم الخير والحرية والعدل، وبهذا القيم ستظل المنارة مرشدة إلى الاتجاه الصحيح، والعبرة ليست بحجم الشيء الذي يتحقق، ولكن باتجاه هذا الشيء ومساره، وإن قفزة واحدة في الاتجاه الصحيح خير من ألف قفزة في الاتجاه الخاطئ.
وإذا ما أردنا الرحيل عبر منحنيات شخصية الأمة ودروبها وملامحها لتسليط الضوء على أحد العوامل الرئيسية التي قد تمكن من تحقيق صنع المستحيل، ومن ثمة يطول الوقوف؛ لأن الضغط الساحق يتطلب دفعا هائلا من داخل شخصية الواعين بالمسؤولية الجسام التي تنتظرهم، ومن نسيج الذات لحمة وسدى لتحقيق التوازن المطلوب والخروج من التجربة الصعبة بنجاح، وأمامنا صورة للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه نستحضرها في أذهاننا، وهو يمارس بطولة نادرة الامتحان العسير، ويخرج منه بما يشرف الأمة والإنسانية في كل زمان ومكان، رغم أنه فقد زهرة عمره وفترة شبابه، وإن شئت فإنه قدم حياته قربانا بالفوز الذي حققه للشخصية البشرية على السواء، والتاريخ خير شاهد، إنه الضوء الساطع المركز كالشهاب الثاقب في ليالي الأمة شديدة الحلكة عميقة الظلام.
إننا هنا في مواجهة ما يمكن تسميته بأخلاقية العدل الاجتماعي الإنساني، وكل أمة إذا لم تغير في تركيبها الداخلي لإسكات النزوات والشهوات بالتبديل المستمر، والتغيير الذاتي الدائم، والمعادلة الصعبة لن تحل إلا بالتعب والجهد الشاق، والنصب والإرهاق، وقديما قيل: إن السقيم لا يمنح المرضى صحة وعافية.. ولكل شيء في الكون غاية، لكن أكثر أبناء هذه الأمة عن هذه الغايات معرضون؛ لأنهم لا يهتمون إلا بالظواهر والقشور، أما بواطنها فعنهم محجوبة أو قل إنها مدثرة بستائر الغفلة والجمود والصدأ والركود، ولهذا لا تتكشف إلا للذين يبحثون عن الحقيقة في أية صورة من صورها، وفي هذا العالم المظلم الصامت تجري تمثيليات من نوع مثير، ونحن بمثابة صبيان يتعلمون حروف الهجاء ( شفرة الحياة).
والفرح بالتخلف همجية وتخلف، وكذلك الإصرار على الفشل والإخفاق، والإنسان المتمدن هو الذي يقدم لأمته أسباب النجاح ويأسى لأبناء وبنات أمته الإخفاق، ويعتبر نجاحهم نجاحه وإخفاقهم إخفاقه، ومن لا يحمل هموم الأمة في روحه، يطرح معزولا في الوحدة القاتلة، فيضحى غريبا والغربة داء قاتل، والإنسان الجاد يظل يتابع عمله؛ لأن الحياة معركة حركة مستمرة مادامت حركة القلوب مستمرة، ومطلوب التزاوج بين النهضة الحديثة والصبر الطويل على العمل والتواصل الحميد بين أجيال الأمة وغيرها من أجيال الآخر، والتعاون الذي يختصر الطريق ويقترب به الهدف البعيد، وبهذا ينهار الخط الفاصل بين أغلب سكان دول العالم، عار أن نحرم هذه الأجيال الشابة من اللقاء مع لذاتهم وأترابهم، فلندعهم يتقابلون وليحاور بعضهم بعضا، وليعرض كل منهما ما عنده على عقل أخيه إذا أردنا لعجلة التقدم أن تنطلق في بناء مستقبل أمة بما فيه سعادتها وسعادة إخوتها في الإنسانية.
العجز والسطحية سمتان تعتوران أمتنا، والنزوع إلى الجفاف والسطحية يحتاج إلى إغنائه بتجارب السابقين، وإلا ظل مجردا من الحياة والروح والحاضر، وهو يحتاج العقلية الحادة والذهنية المتوقدة والجدية والصرامة في التقييم والعقلية البناءة في الإنجاز والعمل، وإلا ضاعت الغاية ومات الهدف، ومع ذلك فإن ما نحن فيه يجب أن لا يفت في عضدنا وأن لا يقعدنا عن الإقدام؛ لأن لكل الأمم والشعوب فترات ارتفاع وهبوط، ولكل منهما أسبابه وعوامله، وأمتنا بدون مجاراة الآخر الراقي لن تحصل على الكرامة والعزة.
وبالله التوفيق وهو المستعان..
أرسل تعليق