الضابط العقدي للاقتصاد الإسلامي
إن لكل نظام اقتصادي أصوله وقواعده الفكرية التي يؤمن بها وينطلق منها في رسم أنظمته وسياساته الاقتصادية.
وإذا كان النظامان الرأسمالي والاشتراكي ينطلقان من قاعدة اعتقادية واحدة هي (المادية) أو (تقديس المال)، فإن النظام الاقتصادي الإسلامي يختلف عنهما في الوجهة حيث يقيم أصوله الفكرية على قاعدة أعظم وأهم، بل هي الأصل لكل جوانب الحياة، ألا وهي قاعدة الإيمان.
الضابط لغةً: مأخوذ من ضَبَطَ الشيءَ إذا حفظه حفظاً بليغاً. الضبط: لزوم الشيء وحسبه. وقال الليث: لزوم شيء لا يفارقه في كل شيء، وضبط الشيء حفظه بالحزم. ورجل ضابط: أي حازم ورجل ضابط قوي شديد. وفي التهذيب ضابط: أي شديد البطش والقوة والحسم. ورجل أضبط: أي يعمل بيديه جميعا: أي يعمل بيساره كعمله بيمينه ورجل ضابط أي قوى على عمله[1] .
أما في اصطلاح الأصوليين: فالمقصود به ضبط صور بنوع من أنواع الضبط من غير نظر في مأخذها.[2] “
وهناك نقطة التقاء بينه وبين القاعدة تتمثل في أن كلا منهما تندرج تحته أحكام فقهية. بيد أن ما يندرج من أحكام تحت الضابط يرجع إلى باب واحد، في حين أن القاعدة تتضمن أحكاما من أبواب فقهية شتى[3] وهذا هو الفرق بينهما، يقول ابن نجيم [4] :”والفرق بين الضابط والقاعدة أن القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتى، والضابط يجمعها من باب واحد، هذا هو الأصل”.[5] فقاعدة ” لا يزول بالشك” تندرج في أبواب فقهية متعددة؛ كالطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والنكاح، والبيوع، والمواريث…إلخ.
أما الضابط، فهو يجمع فروعاً فقهيةً في باب واحد، كقول الفقهاء: “كل معصية ليس فيها حدٌّ مقدرٌففيها تعزير”[6].
ويلاحظ بعض[7] الباحثين أن الفقهاء –قديماً– لم يفرقوا –في الغالب– بين القواعد والضوابط؛ فكثيراً ما استخدموا مصطلح القاعدة وأرادوا به الضابط أو العكس. من ذلك كتاب “القواعد” لابن رجب الحنبلي[8] لذي أورد عشرات المسائل تحت عنوان القاعدة وهي –في حقيقتها– ضوابط، وهو عين ما سار عليه تاج الدين السبكي وأبو زيد الدبوسي.
ولعل عدم التمييز بين الضابط والقاعدة يندرج في سياق استقرار المصطلحات العلمية، ومراعاة ما يطرأ عليها من تطور خلال استخدام العلماء لها.
فإن استقرار معنى «القاعدة الفقهية» و«الضابط» -على ما هو عليه الآن- قد أخذ فترةً طويلةً من الزمن. ثم إن هؤلاء الفقهاء كانوا يكتبون لقراء يفهمون -بداهةً- الفرق بين القاعدة والضابط؛ لما امتازوا به من تمكُّنٍ لغوي وصفاء ذهني أهَّلهم للتمييز بين المصطلحات.[9]
المعنى العام لمصطلح الضوابط الشرعية للاقتصاد: “هذا المصطلح يعني الضوابط الإسلامية في مجال الاقتصاد والتي يؤدي الالتزام بها إلى صلاح الحياة الاقتصادية، كما أنها تؤدي بذاتها إلى حفظ الاقتصاد في شكل إيجابي في ذات الاقتصاد، وإيجابي في العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين الأفراد الذين يعيشون ويمارسون هذا الاقتصاد.
فالإيمان يمثل المنطلق الرئيس والركيزة الأولى لكل جوانب ومجالات الاقتصاد الإسلامي، فهو في حقيقته وجوهره فرع من فروع عقيدة الإيمان ومهمته أن يحمي هذه العقيدة ويعمق جذورها وينشر نورها، ويضع الصور العملية التي تعبر عنها وتحقق أهدافها في واقع الحياة [10] .
ولذا نجد أن الله سبحانه وتعالى يوجه الخطاب في كتابه الكريم إلى الذين آمنوا وذلك في سائر الأحكام الشرعية ومنها أحكام المعاملات.
– يقول تعالى في آيات الربا:” يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مومنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلِمون ولا تظلمون” [سورة البقرة/ الآية: 278].
والمسلم حين يلتزم بهذه الأوامر والنواهي من إيتاء الزكاة وبذل الصدقات وترك الربا والغش… الخ فإنه إنما يلتزم بها؛ لأنها من عند الله -عز وجل- وهو يدرك في قرارة نفسه أنها خير له في عاجل أمره وآجله [11] .
وارتباط الاقتصاد الإسلامي بالعقيدة يظهر في علاقته المباشرة بأركان الإيمان وخاصةً (الإيمان بالله) و(الإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره) وسنبين هذه الأصول الثلاثة ثم نبين بعض المبادئ الاعتقادية المتفرعة عنها.
الإسلام عقيدة وشريعة؛ أمّا العقيدة فهي الجانب النظري التصديقي، وأما الشريعة فهي الجانب العملي التطبيقي. ويُلخّص ذلك قوله تعالى: “…ءامنوا وعملوا الصالحات”. وبما أنّ العقيدة هي الجانب النظري التصديقي من الدين، فإنّ هذا يعني أنّها المقدمة الضروريّة، والأساس، والمنبع الذي يصدر عنه الجانب العملي التطبيقي. من هنا كان الجانب العقدي هو الأهم؛ فعندما يُصدّق الإنسان ويعتقد يندفع للعمل والسلوك ويسهل عليه الالتزام. ومن اللافت أنّ القرآن الكريم يعطي العقيدة الاهتمام الأكبر، ويجعل الإيمان أساساً للعمل.
العقيدة اصطلاح اجتهادي لم يرد في القرآن ولا في السنّة. وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يُسمّونها إيماناً، وهي تسمية قرآنيّة. وقد أُطلِق على العلم الذي يختص بالعقيدة اسم (علم التوحيد)، وسُمي (علم أصول الدين)، وسُمي أيضاً (علم الكلام). وهناك من علماء الكلام من يرى أنّ اصطلاح العقيدة يختص بالمسائل التي ثبتت بدليل قطعي: أي بمتواتر لا يحتمل أكثر من معنى، كقوله تعالى: “إنّما إلهكم إله واحد”، فهذه الجُملة قرآن متواتر، أي قطعي الثبوت. وكلمة واحدة لا تحتمل أكثر من معنى، أي قطعيّة الدلالة.
كل حكم شرعي يتضمن في حقيقته عقيدة وشريعة؛ فقولنا “الصلاة فرض” هو خبر يتضمن طلباً؛ فتصديقنا بأنّ الصلاة فرض يتعلّق بالجانب العقدي، وقيامنا بالصلاة يتعلّق بالجانب التشريعي. ومن هنا لا مجال لفصل العقيدة عن الشريعة؛ فلا بد من التصديق أولاً بأنّ الصلاة فرض ثم تكون الاستجابة بإقامة الصلاة. وهذا يصح أن يقال في كل حكم شرعي.
العقيدة هي منبع ومنهج الحياة الإسلامية بصفة عامة، والنظام الاقتصادي بصفة خاصة؛ فالنظام الاقتصادي الإسلامي جزء من عقيدة لا تقبل التجزئة. وأساس هذه العقيدة توحيد الله -عز وجل-، والإيمان بأن الولاية لله وحده خالق الكون وما فيه، والمالك المطلق له، ورازق مخلوقاته. كذلك تشمل العقيدة الإسلامية الإيمان بالرسول صوب الحياة الآخرة، وبالثواب والعقاب، مما يجعل سلوك المسلم في حياته اليومية من الأعمال الإيمانية. والفرد المسلم كائن مكلف ومستخلف من الله لتطبق تعاليمه وتعمير الأرض.
إن الإسلام ينظر إلى استخدامات الملكية على أنها أمور مرتبطة بالعقيدة الإسلامية، لذلك يلزم أن يكون القائم بذلك متحققا فيه وصف المسلم اعتقادا وسلوكا، وهكذا يكون المنهج الإسلامي في هذا الأمر الاقتصادي مرتبطا ومتفرعا عن المنهج الإسلامي العام لعل قيمة الدين في الاجتماع الإنساني، أنه يوفر للإنسان القاعدة الفكرية التي تستند الظواهر الكونية والإنسانية فيها إلى القوة الإلهية الخالقة القادرة والحكيمة التي ركزت الوجود في كل تفاصيله على أسس ثابتة في قوانينها، متوازنة في حركتها، مما يسمّى بالسنن الإلهية، فالله هو رب الوجود كله، الذي يتطلع إليه الإنسان في كل أوضاعه، ليمنحه القوّة في مواطن الضعف، وليرعاه في كل أموره، فلا يحس بالضياع، ولا يشعر بالقلق أمام الكون في علاقته بحركته ووجوده؛ لأنه يرتبط به في وحدة النظام العام، وفي صفة المخلوقية للخالق والعبودية للرب، والخضوع لكل تدابيره، وبهذا يمتد الإحساس بهذه الوحدة إلى داخل المجتمع الإنساني الذي يعيش كل أفراده في نطاق الرابطة الإنسانية التي تجمع كل تنوّعاتهم في وحدة داخلية في إنسانيتهم التي يلتقون عليها، وفي دورهم الذي يتكاملون فيه، ولذلك فلا يمثل التنوع تبايناً، بل يمثل تكاملاً في الخصوصيات، بحيث ينضم بعضها إلى البعض الآخر من أجل إنتاج القضايا الكلية في مسار الإنسان، وهذا هو الذي عبر عنه القرآن الكريم في تأكيده على وحدة عنصر الخلق وتنوّع خصائص الإنسان: “يأيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..” [سورة الحجرات/ الآية: 13]، فالتنوع هو الوسيلة الفضلى للتعارف، باعتبار انجذاب الإنسان إلى الإنسان الآخر في حاجاته إليه، من خلال ما يملكه من طاقات فاعلة تؤثر في حياة الإنسان الآخر إيجاباً، فيدفعه ذلك إلى إيجاد العلاقة به من أجل الحصول على ما لديه من هذه الحاجات.
الإسلام يدعو المؤمنين والمؤمنات إلى التعاون على البر والتقوى بحيث يتكامل الجميع في تحقيق هذين العنوانين الكبيرين في الواقع، اللذين يمثلان الخير كله في علاقة الإنسان بالإنسان، وفي المفاهيم الأصيلة في الإيمان والعدل والتكافل الاجتماعي، والمراقبة المنفتحة على الله في دائرة السلوك الفردي والاجتماعي للإنسان على أساس الضوابط الروحية والعملية، وليبعدهم عن التعاون على الإثم والعدوان اللذين يمثلان الشرّ في نطاقه الفكري والحركي، وقهر الإنسان الآخر في كل أبعاده وأوضاعه.
إن أساس هذه العقيدة توحيد الله -عز وجل-، والإيمان بأن الولاية لله وحده خالق الكون وما فيه، والمالك المطلق له، ورازق مخلوقاته. كذلك تشمل العقيدة الإسلامية الإيمان بالرسول-صلى الله عليه وسلم- وبالحياة الآخرة، وبالثواب والعقاب، مما يجعل سلوك المسلم في حياته اليومية من الأعمال الإيمانية. إن هذه المنظومة العقائدية والأخلاقية أقدر على تفعيل طاقات الإنسان في هذه الحياة، فهي كذلك أقدر على زرع الرقابة الدائمة في هذا الإنسان، وذلك لأن هذه القيم والثوابت الشرعية يتجاوز أفقها الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، وبالتالي فإن الفرد المؤمن يكون أفق حساباته للربح والخسارة مشتملاً على الدارين، فهو عندما يقبل على عمل ما يفكر في تكاليفه وعوائده ليس في هذه الدنيا الفانية وإنما في الدنيا والآخرة معاً؛ لأنه يدرك أن هناك موت وبعث وحساب. هذه النظرة البعيدة في حسابات الربح والخسارة التي تغرسها القيم الإسلامية لا شك أنها تهذب سلوك الإنسان المسلم في هذه الدنيا وتجعله أكثر ميلاً للفضائل بكل صورها وأكثر ابتعاداً عن الرذائل بكل صورها، آملاً بالفوز في الدنيا والآخرة.
وهناك جانب آخر، مهمٌ في هذه العقيدة، وهو هذا السموّ الروحي الذي ينطلق بالإنسان إلى آفاق الله، خالقه وخالق الكون، ليتعبد له في إحساس الخضوع لربوبيته، في حالة وجدانية يمتزج فيها الرجاء من خلال النعمة بالخوف من خلال العظمة. فهو في المفردات العبادية الرب، الرحمن الرحيم الكريم، المنعم المتفضل، المحسن، وهو مع ذلك القوي القادر القاهر فوق عباده، المتجبر الذي يُطلّ جبروته في سرّ عظمته وقدرته على الوجود كله، وهو الحكيم الخبير الذي يتصرف بالكون والإنسان من خلال الأسرار العميقة التي تضع لكل شيء قانوناً، وهذا هو الذي يجعل الإنسان واثقاً بالتوازن في حركة الوجود في داخله ومن حوله؛ لأن الرعاية الإلهية في مواقع الرحمة، والقدرة الربانية في مواقع القوة، توحيان إليه بالأمن الذي قد يعرفه الإنسان في أوضاع الفوضى التي لا تخضع لقاعدة ولا تقف عند حدّ. وعلى وجه اليقين التام ليس ثمة عقيدة تصدق بها النفوس، وتطمئن لها القلوب، وتزكي الروح والجسد، وتبني الدنيا والآخرة، وتجيب عن كل التساؤلات عن الله تعالى، وما يجب له وما يمتنع عليه، وعن الحياة والكون وما فيها، والموقف من ذلك كله، وعن المصير، سوى هذه العقيدة الإسلامية الصحيحة التي كان عليها سلف هذه الأمة، كما قال تعالى على لسان رسوله الكريم محمد-صلى الله عليه وسلم-: “قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” [سورة الأنعام/ الآيتان: 162-163]، وكما قال تعالى: “قُلْ اِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” [سورة الأنعام/ الآية: 164].
———-
1. لسان العرب، ج ، 7 دار صادر بيروت، د.ت. ص: 340-341.
2. شوقي الفنجري، الضوابط الشرعية للاقتصاد، ص: 19.
3. محمد عبد الرحمن عبد المنعم، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، القاهرة، دار الفضيلة، د.ت، 2/403-404.
4. الندوي، القواعد الفقهية،. ص 46 وما بعدها.
5. وابن نجيم(المتوفي970هـ) هو زين الدين بن إبراهيم بن محمد، الشهير بابن نجيم. من أبرز فقهاء الحنفية في عصره. اشتغل بالإفتاء والتدريس، وأغلب مؤلفاته المعروفة في الفقه وأصوله، من أهمها: «البحر الرائق شرح “كنز الدقائق” لعبد الله النسفي»، و«الأشباه والنظائر»… شذرات الذهب. 8/358؛ ومعجم المؤلفين، 4/192.
6. ابن نجيم ،الأشباه والنظائر، ص: 192.
7. الأشباه والنظائر، ص: 217.
8. القواعد الفقهية، ص: 47.
9. الحافظ عبد الرحمن بن شهاب الدين، الشهير بابن رجب. فقيه ومحدث، من أعرف أهل عصره بالمذهب الحنبلي. من مؤلفاته: «تقرير القواعد وتحرير الفوائد» المشهور بالقواعد، و«جامع العلوم والحكم»، و«الذيل على طبقات الحنابلة». شذرات الذهب. 6/339.
10. محمد سعيد العمور، “القاعدة الكلية «اليقين لا يزول بالشك» وعلاقتها بعلم الأصول”، رسالة ماجستير، الجماهيرية العربية الليبية- الزاوية، جامعة السابع من أبريل، 1995م. ص: 16.
11. يوسف القرضاوي، “دور القيم والأخلاق في النظام الاقتصادي الإسلامي”، ص: 37.
12. رفعت العوضي، “في الاقتصاد الإسلامي”، ص:81.
أرسل تعليق