الشخصية الطامحة
الشخص الطموح يتميز بالجد الزائد والمثابرة، كدا وكدحا، ويقبل التحدي والسعي والمنافسة الشريفة، بتطلعات عليا لتحقيق أهداف كبرى، تراه يبدل أقصى ما يملك من جهود، حتى يصل إلى ما يصبو إليه لا يعبأ بإرهاق، هو على الدوام يندفع إلى الإنجاز ويصر على الفوز، والأهم من ذلك فالمبادرة تخلق الشخصية الناجحة بإذن الله، يذهب به الطموح حيث يشاء، ليدخل التاريخ من بابه الواسع، مثل هذا الشخص ينزل من قلوب الناس مكانا مقدسا، واسمه وحده يوحي بنجاحات حافلة بالأمجاد مصحوبة بصياغة وجدان الصاعدين .
وهذا الشخص يعد علامة من علامات الفكر المنير، والاعتدال في الفطنة والذكاء والعلم، فأينما ذهبت تحيطك إنسانيته الدافئة، تمتزج ذاكرته بذاكرة الآخرين، وكرمه وأنفته وشدة اعتزازه بالوطن والأمة وتعلقه بكل بنات حواء وبني آدم، ولا شك أن العاطفة الجياشة تخلق الجو النابض بالحياة يكمن فيه الماضي المهيب ناطقا بحاضر ينعش الوجدان ويتجدد معه المستقبل، وتمضي الأيام تتأرجح تتلاحق أحداثها للاحتكاك بالثقافات الإنسانية المتفوقة، وتحري الأسباب والنتائج بالتدريج إلى إيقاف التاريخ على رجليه، بدل أن كان يقف على رأسه، والحضارة الإنسانية حمالة أوجه يصنعها أشخاص ينتمون إلى مجتمعات معينة قد تتسع وقد تضيق.
والطموح يمنع العقلاء البكاء على الدمن والأطلال وأن تغني بأمجاد الماضي فهو يعمل على تغيير الحاضر وتخطي الهموم والأحزان لتشكيل عقلية الأجيال، وتزويدها بالطاقة التي تساعدها على الاندفاع في مسار الحياة، وحتى لا تصبح عبئا ثقيلا على التاريخ والبشرية، ولتكون أفصح منطق، وأقوى عود وأعظم شكيمة للتشخيص الحي العميق، الخاضع لتطور الظروف والاحتكاك بالمجتمع الإنساني المتمدن وصرف كافة الجهود لتحقيق مشروع هام تتطلع إليه جميع الأمم والشعوب، والشخص الطموح ينكر وجوده الفردي المباشر، وتأكيد قدرته على الاندماج الحقيقي مع الآخرين، وهو الذي يحدو به الفهم إلى العمل على التوفيق بين الإرادة الذاتية والإرادة العامة، لتغيير العالم ليبقى ذكره صفحات ناصعة الإشراق، لأنها ترجمان صحيح للنفس الأبية، ينأى بنفسه عن التحيز والتعصب، وفوق المحاباة والمراوغة، متجرد من أهوائه مغالب لميوله ونزواته.
ومن اللازم أن نحكم على الإنسان بما يناجيه به ضميره وحده لإدراكه العام للطبيعة الإنسانية المستمد من تجارب الحياة، وخبرته بطرز النفوس وألوان الطبائع، وعليه وهو يعمل في ميادين أوسع أن يتحرى القصد ويزن ملابساته، وأن يكون مخلصا في كل شيء، ولا يقف عند هذا الحد، والإنسان الذي لا يتقدم يتقهقر، والشخصية الإنسانية الطامحة تزداد مع مر الأيام جمالا وسموا، ولذلك كان أهل النظر في كل أمة يوضحون الحقائق، والإشارة إلى المعالم المساعدة السالك في الوصول إلى المبتغى، وهو لن يستطيع أن يظل حبيس دوامة كجثة ممددة، إنه يدرك ما تعانيه البشرية في ليلها الطويل، ويتلمس لها الطريق في العتمة حتى تهتدي إلى غايتها، وليس أمامه إلا الصبر، ولا يعنيه أمشى على الثلج أم على الجمر وهو يسمع صراخ البشرية المقهورة وما تعانيه من آلام، يرهف سمعه لأنين البائسين، يشتد وجيفه ويخفق قلبه لأنات المحرومين، يتمثل قول الشاعر:
تركت لمن يبغي الخلود خلوده وباركت يوما لم تفتنـي فوائـده
وما أشد إعجاب شعور الإنسان الذي يستمع إلى شيء غامض، أو يتطلع إلى معرفة هذا الغموض بأسرع مما يمكن أو يظن، فهو في سباق مع الزمن وليس في هذا ما يعاب؛ لأن حياة الناس قبل الانحراف صحائف بيضاء مفتوحة، والطامح من الناس يتصرف كأنه مسافر أو مريض يحتاج إلى تركيز محكم، وهل هذه تصرفات شاذة أم هي حالة طبيعية أم هي نتيجة معاناة إنسانية يمر بها المبدع المبتكر الخلاق، ولأنه كلما اختفت المعاناة اختفى الإبداع، بل إن كوامن النفوس تحمل بذور بداية طريق جديد من الاحتشاد البشري، والتمرس بالحياة الفاقهة لأوضاع كل إنسان، وسيكون هذا أول الغيث لإيقاظ النوام وإعادة الشاردين وتنظيم المشتتين لينظم هذه الخرزات المتناثرة في خيط إنساني واحد، ليكون منها كيان إنساني متكامل له وزنه وله أثره في الوجود البشري.
وكثيرا ما جمح بي الخيال: فأتساءل هل لهؤلاء الطامحين الرواد من حق علينا؟ وهل في رقابنا من واجب نحوهم؟ ذلك أن قضايا الإنسانية فوق كل اعتبار، وتحتاج إلى خلق الفرص والحوافز؛ لأن الحياة لا تصفو والحرية لا تزدهر إلا في مجتمع متكاثف حيث تتطور حياة الناس، وتحقيق أفضل ما يطلب من التقدم الاجتماعي الإنساني، وأفراد هذا الجيل مضطرون إلى مسايرة العصر، وإلى لحاق الركب العام، ويريدون أن يقولوا كلمتهم في كل أمر يتعلق بحياتهم وحياة كل البشر، ولهم في ذلك كل الحق، وأجيال اليوم يدفع بها الطموح أن تبني نفسها بناء خلاقا، لملء الفراغ الموجود في الحياة المعاصرة ولا تستكين خانعة للجمود والركود اللذين هيمنا على حياة ألأمة قرونا عديدة من الانحطاط.
والحياة هي الجسم الحي النامي المتطور، تحمل في طياتها كل الزاد الذي يفيد الإنسان في مكانه وزمانه وظروف حياته، والحياة تستوي فيها الأزمان والعصور، وناسها هم من يفسر ما يوافق الأذواق الفاسدة والمشارب الكاسدة، فالتصوير المحرف لا يستطيع أهله ملء الفراغ الموجود في الحياة المعاصرة، ولا جدال أن الطريق طويل لتيسير التعاون اللصيق بين ألإنسان وأخيه الإنسان، قصد بلوغ الغاية في فترة زمنية أقصر، وأجيال المسلمين ليست في معزل عن المجتمعات العالمية التي يتحرك بها قطار الحياة، لتلقين المتخلفين درسا في كيفية إيقاظ العقول الحجرية التي يغطيها الثلج البارد، ولا يتخطى المشكلة إلا من يركب الصعب وينخرط في الحياة مرها وحلوها، ويخوض عبابها بصبر العارفين ويقدم لوطنه وأمته والإنسانية أفضل ما عنده من عقل ووجدان وفعل، ويوازن بين أناه وغيره، والجمع بين الثابت والمتطور، والإنسان الذي لا يشبع من المعرفة هو الذي تزداد مقدرته على استيعاب كل جديد، والعبرة في النهاية بمهارة المنطق، فالمنطق صناعة الأذكياء الطامحين تحق الحق ولا تبطله، وليس أمامه سوى العمل على الخلاص من كل ما من شأنه أصبح غير ملائم لروح العصر، ومعطل لحركة التقدم، والنشاط البشري هو تعمير الدنيا وإحياؤها وأن ينعم الجميع بخيراتها، والإسلام نادى من أول أمره بالاعتدال في كل شيء وفي كل نواحي الحياة، ولا يمكن أن يوضع الإنسان في قالب جامد أو صيغة محددة، لكن يجب مراعاة اختلاف ظروف الزمان والمكان.
والتقدم معناه أن يجد الإنسان قيمته في مجتمعه، بحسب تطور هذا المجتمع ونموه، مع تضافر الجهود لتأييد الصحيح وتصويب الفاسد، والعمل على مد روح التواصل بين جميع الناس، وتوثيق أسباب الصلة بهم، والحرص على توثيق العلاقات وعلى تيسير سبل التفاهم والتقارب، والربط بكل ممكن بين أطراف العالم القريبة والبعيدة، بمحاولات جريئة لعلاج أصل المشاكل التي أدمت البشرية، وتقديم كل الإمكانيات لتشجيع عملية التقارب للتمكين من قفزات هائلة في شتى مجالات الحياة العصرية، والفرصة اليوم متاحة يجب ألا تضيع، ومن خلالها يجب مخاطبة كل إنسان أننا به ومعه، ونؤكد له أننا لسنا ضده، نقف بجانبه ونتعاون معه، وأخيرا أتمنى أن يستقر السلام وتسود روح الأخوة الإنسانية لتشهد البشرية شبابا يقسم أجسامه في جسوم كثيرة يؤثرها على نفسه.
أرسل تعليق