الشباب وأزمته الحضارية
إن الله جل جلاله قد يحجب سر حكمته في الأجيال الناشئة، عن أنظار من نعتبرهم أدواحا وقامات، حتى يتحيروا ويشتاقوا إلى معرفة الحكمة التي استودعها الله في الشباب؛ لأن عناية الله تعالى تخلع على الصغير الناشئ حلل الجلال والبهاء، وتصيره عظيما لأن عنايته سبحانه توجهت إلى تراب الأرض، فصيرت منه آدم بشرا سويا، وجعلت منه مركزا لأسرار قدرته، وعلمه الواسع، وحكمته الباهرة.
غير أن طبيعة الشباب بحكم ما يمور في باطنه من مطامح، ويتوقّد فيه من أسباب الحياة بمقتضى مرحلته العمرية، وكذا بحكم غضاضة تجربته واستعداداته الهائلة، كل هذا يقتضي من لدن الشباب توفّرا واستشعارا للمسؤولية من لدن القائمين على الشؤون التربوية والتواصلية والاقتصادية واجتماعية عناية خاصة بالشباب مع استحضار أنه كنز وفرصة انبعاث لأمتنا، وليس عبئا وتقلا. وصدق الله العظيم يقول: “والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا” [العنكبوت، 69]. وإلى هذا المعنى أشار الشاعر إسماعيل أبو العزائم:
ومن طلب الحـياة بلا جهـــــاد كمن رام الحـــيــا من غير مــــــزن
وكيف نقيـــم بنــــيانـا إذا مـــا هدمنا اليـــوم ما بالأمــــس نبنـي
فنحن أصحاب عقيدة بمقاييس ترفض الطعام الجديد إذا عرفنا أن فيه لحما حراما، وننكر الزي الجديد إذا رأيناه يكشف ما أمر الله أن يستر، لقد علمنا الأجداد الكرام أن لا نقبل أمشاجا غريبة تؤذي فطرة أولادنا، لأنهم الجيل المؤهل لوراثة الأرض على مستوى إسلامه ومستوى عصره، وهذه قضية لا يملكون إزاءها خيارا، إن “ترمومترات” الإسلام الحية على اتصال مباشر لنبذ ما يجري من زيف ما يدعونه من ترهات كلما اتسعت معارف أبنائنا وبناتنا، وأنا لا أنكر المنعطف التاريخي الكبير ليس وليد طفرة أو دفقة حماس، أوقفزة من فوق السنن التي تحكم الحياة والأحياء، ولا هي ثمرة أمنية حالمة أو موقف انفعال، إنه الفرقان الذي يمثل الروح المبصرة في حياة الأمة قال تعالى: “ومن يتق الله يجعل له مخرجا” [الطلاق، 2].
والعاقل هو الذي يسائل الواقع عن أسرار النكبات والتخلف الحضاري، والاطلاع على التراث يقوي العزيمة، ويقوم الاعوجاج، ويوضح المفاهيم، ويعيد بناء الأمة برحابة العقل، وثاقب النظر، والفكر المستقل، والحس المرهف، إذ لا يخفى أن وسائل الإعلام، وما يسمى بصناعة تعليب العقول، تؤثر في توجهات الأجيال وأفكارها، ومعتقداتها وتصوراتها لنفسها ولأسرتها وأمتها والعالم برمته، أما الترويج للبضاعة القديمة في ثوب خادع جديد، سيؤدي حتما بالناشئة أن تتسربل بفعل الرفض، وأداة النفي حتى لا تبقى يد العار مرسومة بأصابعها فوق الجباه الطرية إذا أردنا لأولادنا أن يفهموا مشكلات عصرهم الحاضر من خلال جذورها في الماضي السحيق، ويستشرفوا بدقة وعناية مستقبل عهد جديد بتجارة رابحة، وإلا كان المقابل هو الاحتضار القاسي تصطك به الأسنان، ولن يستطيع اللسان أن ينطق بكلمة يزاحمها الأنين المتقطع.
ومن هنا كان لزاما لإخراج الشباب من أزمته الحضارية ليصل إلى وضوح الهدف، وتحديد ملامح الطريق، دون ضباب أو تضليل وتعتيم، وعلاج الأعطال المرعبة أو الخفية لا يكفي فيها الكلام مهما كان بليغا بل لابد من إزالة أسباب الخلل وإلا أغرقنا شبابنا في ظلام دامس، فبعض من يهمهم أمر الشباب مصابون بما يشبه الشلل، ورحم الله الشيخ محمد الغزالي لما قال: تشبه أحياء وحارات انقطع عنها التيار الكهربائي فغرقت في الظلام“، والأوضاع لابد من إعادتها إلى الأسس السليمة، إلى فطرتها الأولى قال تعالى: “فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله” [الروم، 30]، ويقول أحد علماء جامعة السوربون في مؤلف له: إن العالم فيه ثلاث قوى-قوة الشرق وقوة الغرب، وهناك قوة ثالثة، لو عرفت نفسها أمكنها أن ترث القوتين، وهذه القوة الكامنة وراء يقظة المسلمين، لأن لهم نظرة انفردوا بها عن العالم في تنشئة الرجال، والمحنة التي تعاني منها البشرية جميعا هي هذا الضجيج الترفيهي الطاغي تماما على صوت العقل المفكر في القضايا الأساسية، وانعدام وجود مؤسسات ذات طابع البحث والتفكير والدراسة في شتى فروع العلم والمعرفة، والتي قد يجد فيها شبابنا ملاذا أو ملجأ، ومجالا يفيد فيه، وما فائدة حياة شباب إذا لم يمكن من واقع حياته هو، وحياة الناس الذين يعيش معهم وبينهم، ليقدم للبشرية أروع ما تعلمه في الطريق الطويل الصعب الوعر، من مبدئه إلى المحطة التي وصل إليها، والشباب لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا قبل أن يكون شجرة باسقة وارفة الأوراق والأغصان، راسخة الجذور في أعماق تربته، فهو نبتة وليدة غضة تنمو بحذر في تربة الأسرة ومحيطها المجتمعي.
ولا يغيب عن الأذهان ما تعانيه الأسرة القروية في أدغال الغابات والجبال، وفي تخوم الصحراء، والأحياء الشعبية من المشكلات الفادحة التي تتسبب فيها كل من ظاهرتي الفقر والأمية على المستويين الاجتماعي والثقافي، هذا الشباب في عيني نسور محلقة فوق بلاد البشرية البعيدة الكائنة قرب موضع قلبها من الضمير الإنساني، يستقطر من عرقه رحيق الوجود، ومآل الإنسانية وحكمة الأيام، فإن عرفت قدره، فإنه القادر على استنطاق قلوب قدت من حجر، يكابد ألما يبني على أشلائه مشاهد مجد، يتعانق به الماضي والحاضر والمستقبل، ستبقى مرايا تاريخ حي تعكس ملامح حياة الأسرة والمجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية، في غلالة من الجمال الأخاذ، تدل على الحقيقة الناصعة، هبة من شباب كاشف للمتأملين الراكضين نحو سفينة يقودها قلة من الفضلاء، ليعيدوا خلق العالم من جديد، ولأن وقتهم محدود لا يهدرونه حتى لا يقعوا في شراك المبادئ الجاهزة، أي العيش مع نتائج فكر الآخرين، تحجب أصواتهم الداخلية، والأهم من ذلك تحليهم بالشجاعة لملاحقة ما تفضي إليه بديهتهم وقلوبهم، لأن القلب والبديهة يحيطان بالفعل بما يودون القيام به حقا، وكل ما هو غير ذلك فهو زعانف وصدق الله العظيم إذ يقول: “من اِهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا” [الاِسراء، 15].
وإن عملية جس نبض قدرة الشباب التي هي البوصلة التي تدل على مدى استجابته لتنزيل ما تعلمه على الواقع، أو هو في حاجة إلى مزيد من المراجعة والتنقيح من كل دعي ودخيل، ببضاعة بخس تجمع بين الجهل والهوى، وهما جماع أسباب الضلال والزيغ للطعن في الدين والتشكيك بعقيدة التوحيد ليبدأ الفساد من داخل الأسر ممتدا نحو المجتمع، لتكريس الباطل وتعميمه وتوهين الحق وإبطاله، وتمييع الدين وتطويعه، لكن هيهات فالعلماء الراسخون المشهود لهم بالعلم والإمامة في الدين بالمرصاد لأنصاف المتعلمين والجهال الأدعياء الضالين المضلين، ولأن الكلمة من العلماء الربانيين صادرة من روح القدس تساهم إلى حد بعيد في خلق أجيال واعية، إذ تدخل إلى سويداء قلوبهم فتستقر معانيها لتحولهم إلى أناس ذوي مبدأ ورسالة، ولأن القدوة لها أكبر الأثر في بناء الأجيال، وأنها تقوم أيضا على تنقية مناخ العمل من السلبيات التي تتسبب في إهدار القيم والمبادئ التي تنهض بأرقى الحضارات.
والعمل مع الشباب يحتاج إلى رجال مسلحين بالعلم والإيمان والمبادرة والبصيرة والحلم والشجاعة؛ لأن حياة الشباب تصطحب معها قضايا جديدة تحتاج إلى من يسخر إنجازات العلم، بما يناسب كل قضية، مع التركيز والتبسيط ليستقيم الشباب، وباستقامته يسود الأمن ويعم البلاد والعباد وهذا ما يسميه الفقهاء والأصوليون فهم المقاصد والغايات والأهداف بمنهج واضح المعالم على أساسه يسير العامل في الحقل الشبابي، ومن خلاله يتحرك لتستقبله الآذان الصاغية والقلوب الواعية، وصدق الله العظيم إذ يقول: “إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين” [هود، 114]
اللهم أدخلنا وشبابنا في سترك الأعظم ومتعنا وإياهم بالحياء، وأخرجنا وفلذات أكبادنا من العيوب والذنوب بفضلك وكرمك آمين والحمد لله رب العالمين.
أرسل تعليق