..الشباب بالإسلام شلال رباني
عالم الأسرة هو الجو المفضل والأثير الذي يخلع على الأجيال الطالعة من فيض الحياة ما ينقش في ذاكرة الصغار ألوانا من مجريات الأحداث والأفكار التي ترافق الصغار في درب حياتهم مع مشوار قد يطول أو يقصر كنهر يجري من منبعه إلى مصبه لا يستقر على حال ما يرافقه من قلق وهدوء، ونشوة وفرح وبؤس وفقر ولذائذ ومنغصات، وغيم وبرق، وتبسم وانقباض، وحب وكراهية وتلك لعمري ما يشير إليه قوله تعالى: “إن سعيكم لشتى” [الليل، 4].
وبحكم طبيعة الأسرة ومن خلال تدرج البنين والبنات في المراحل التي يقطعونها، والتكيف التلقائي لكل عضو تتباين القدرات والملكات عبقرية وبلادة ونبوغا وغباوة، ومع هذا المناخ بما يكتنفه من طموح وضمور يمكن التقاط ما تنشق به كل شخصية من صرامة وتراخ ونجاح وفشل، وبعد ذلك يأتي دور المجتمع والمحيط، ومع تطور وسائل الاتصال وأجهزة الإعلام وصناعة الاهتمامات، كل هذا له دوره في المساهمة لبلورة العقول وهي تقتحم على الأسر الدور والبيوت، لاحظت يقظة غير معهودة من هذه الأسر حتى لا تترك الأجيال أسيرة ما يلقى إليها من خلال صور التحكم في عقولهم وعواطفهم وقد أعدت العدة في هذا المجال لحماية الشخصية الحضارية لأبناء وبنات الأمة، وهي تؤدي رسالتها الإنسانية، فصدق الله العظيم إذ يقول: “والله يقول الحق وهو يهدي السبيل” [الاَحزاب، 4].
وبالرفق واللين والحكمة، والبلاغ المبين، والمدافعة بالتي هي أحسن، استطاعت كثير من الأسر المسلمة وبرؤية واضحة، أن تعلم أفرادها بدفع عملية التقدم ليأخذوا مكانتهم، ويضمنوا تقدمهم بالعقول والسواعد، رغم قلة الموارد المالية حددت المنطلقات والغايات بما يحرض فيها على إيقاظ الوعي الإنساني، واستثمار ما لديها من طاقات خلاقة، في كشف الغوامض عن مشاعل التقدم وتحضير الحياة الإنسانية لأن الله تعالى يقول: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” [اَل عمران، 104].
وأمة الإسلام اليوم تواجه أزمة أجيال وأزمة ضمائر وأزمة نخب، لا أزمة أمة، ولو أن النوايا صدقت سيزول ذلك بإذن الله، وفي الوقت نفسه نستفيد من معطيات التجريب فيما أنجزته الحضارة الإنسانية المعاصرة، واختزال ذلك للحاق بركب الإنسانية المتطورة، وهذا لا يتأتى إلا بنفس طويل وبذكاء وحرص شديد على امتلاك التكنولوجيا المبسطة وتوظيفها في بناء قوة ذاتية، بالروعة الإسلامية إلى أبعد الحدود، وبما ينير العقل والحس الإنساني لتسخير جميع ما في الكون لصالح الإنسانية.
وبهمم الشباب ينسجم الواقع لإضافة أمجاد، وخلق حياة منسجمة مع الماضي الزاهر، الذي كاد أن يغطي عليه زمان التدهور والانحطاط، وبروح الحاضر المتحرك وبطموح ولادة مستقبل تتفجر فيه عبقرية كامنة، لنمو اجتماعي واقتصادي، وتلاقُح ثقافي يفسح المجال للانفتاح وتأهيل الإنسان المسلم لمرحلة أفضل، يستطيع أن يحكم العلاقات بين الإنسانية والوجود، لمقاومة الانتحار الكوني ومواصلة الحياة حتى تفوز بمرحلة الشهود الأبقى ليوم القيامة قال تعالى: “فلا اَقتحم العقبة وما أدراك العقبة فك رقبة اَوِ اِطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة اَو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين ءَامنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا يالمرحمة” [البلد،11-17].
وإن التفاعل الذي نريده هو تميز إسلامي واع مستقل وبين حضارة شرقية جديدة صاعدة، لا بين مجتمعات استهلاكية مفتوحة طامعة تمثل رديفا للانتهازية الظالمة التي تحاول كسرنا من جديد، وكثيرا ما أراني أسأل نفسي مع طول ترددي وحيرتي حتى أصبحت مع كثرة إطالة النظر، تبين لي أن الشباب لبلوغه الغرض عليه أن يجاهر برأيه ليتحرر من هذا التناقض العجيب الذي تعيشه الأمة بين الأقوال والأفعال، وليتمكن على الرؤية بقدرة تخلصه من سجنه الذي كمم أفواهه وغل يديه، وإلا تضاءلت فرصة الاختيار لديه وروية لينطلق بعدها في رحلته العظيمة الخالدة، وبأسلوب سريع وهادئ على تبديل الأسس للحياة الاقتصادية والاجتماعية، ووضع القواعد الثابتة لبناء مجتمع حديث ورحم الله الشاعر الذي يقول:
أإخوتـــي إن الحــياة تسـير دون تــوقف بتلطـف حـينا على أبنائـها وتعــســـف
وقول آخر:
فأصولنا قاست وقاســت بعد ذلك فروعــنا ذابت من البأساء والمرح العقيم شموعـنا
والشباب بلا عقيدة لا انتماء له ولا شموخ ولا كرامة، بل انحدار لمسلك تأباه الرجولة والإسلام للشباب شلال يتدفق هادرا كالسيل السماوي يحيي موات القلوب بالآيات المعجزات التي ضمها القرآن الكريم، ووضحتها السنة الغراء بجهاد النفس في مسيرة حافلة خالدة تكشف بكتابها المسطور الذي ينبض بالحق في خطاب من نور في مواجهة هذه الأزمات التي تكاد تتلف الإنسانية فترة بعد فترة، وهي من صنع الإنسان الذي حاول أن يجعل الناس سلعة يلعب بها صيارفة عبثوا بكرامة الإنسان حنطوا بها الأجيال، يستهدفون بها عقيدة التوحيد لتشقق من داخلها وتخريب أبنيتها بتيارات هدامة أرسلوها أمواجا لإغراق الشباب بطغيان المادة وانتشار الإلحاد قال تعالى: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” [البقرة، 184].
إن عزل الشباب يعتمد على حبسه داخل نطاق مقيت من العزلة العقلية تمرد على شرائع الله، ودحره في بؤرة الانكفاء ليصنعوا منه قربانا من التزمت والانغلاق، وتلك كارثة تعطل دوره ورسالته، وتحويله إلى “مفرخة” تجرى عليها التجارب وتؤخذ منها النتائج، ودحره في أسوء درجات التخلف بما يعيق التعايش السلمي بين بني آدم في شرق الأرض وغربها، بعيدا عن هويته الإسلامية الواقية، بلا هدف يمشي يكتنفه الغبش والتضليل، وقتل الحمية في القلوب وطمر الغيرة بأغطية كاذبة، وفي قتل لضمير الأمة النائم وأنا من فوق هذا المنبر أنبه الشباب المسلم أن يتجه إلى إسلامه ليكتشف ذاته، ويثق بنفسه، ويتمسك بهويته التي يحاول الأغيار أن تضيع من بين يديه، ويعيد الأوضاع إلى الأساس الأسلم في الفطرة التي يقول عنها الحق سبحانه وتعالى: “فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله” [الروم، 29].
وإنه ليس من العقل أن ينكفئ الشباب على ذاته مكتفيا بأحلام الماضي التليد، بل إن عليه أن ينظف حقله الشبابي من الرواسب، ولا يبقى على شاطئ ما يجري من أحداث كالأبله المتفرج دون أن يكون له دور في حلبة السباق الحضاري، فالشباب المسلم أكرم من أن يكون من سقط المتاعب، وأنعم بكمال الرجولة وتمام الفضيلة لشباب يشاهد واقع الأمة المرير الذي كشر الإلحاد فيه عن أنيابه، وغرس مخالبه في جسدها المنهوك وكأنها تنتظر نهايتها، لتقويم اعوجاج في سلسلة من الحلقات المتصلة من التآمر والكيد والإشاعات الباطلة والتهم المغرضة لمحاربة الإسلام بالدس والوقيعة حتى أصبح الكل يردد مع الشاعر يس الفيل:
هذا زمان ضل فأنقذ أمة بهداك تعلو في الحياة مقاما
والأسرة التي لا تصارح شبابها هي تلك التي تنتظر ما يؤدي إلى هزات تقوض أركان الاستقرار بداخلها لينسحب على المجتمع بمشاكل تطيح بالحق الإنساني، في حين أن شباب الأمة يتطلع إلى خطاب إسلامي يقتبس من مشكاة الوحي الإسلامي، من الذين يصنعون الوعي لمحاصرة حجم التحديات اللئيمة التي يقودها دعاة التفكك الأسري والانحلال الخلقي من الذين وصل فيهم الاستهانة بأمر الله باسم العصرية والحرية والتمدن إلى الفجائع التي تؤرق الأسر، وتدهس الشباب بما يعتصر القلوب كمدا ويزيد ويضاعف الكمد أحزانا مما يولد اليأس، واليأس مربوط بحبال الكفر ليعصف بالإرادات وتنهار الأنفس الضعيفة، وربنا سبحانه في هذه الظروف يضع من كنفه عفوا ورحمة بقوله سبحانه: “قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم” [الزمر، 50].
وكلما غابت الثقة في الله ازداد الشباب تخلفا واستشرت الأشجان والإخفاقات، وأنا أعتقد أن أمراض العصر المكتسح هو هذا الفحش الذي يطارد الشباب، وهذا السلوك المشين من الإخلال بالوعود والغدر والخيانة، طوفان يغرق ولا يرى ساحل لموجه الطامي نهاية إلا بمهمة التبليغ التي تنتظر الأسر المسلمة وشبابها من الأجيال المتلاحقة، والاتصال الإنساني بسماحة الإسلام، ورحابته التي بالنور والحق والخير تأمر، وإخراجها من هذا الداء اللعين، ويومها نكون قد صنعنا للأمة صناعة إيمانية تدل بها الإنسانية العطشى إلى الحياة الزاهية ويومها تتضافر الإنسانية بجهد موحد لا تأخذ الأشياء إلا من حلها ولا تضعها إلا في أهلها، ويومها يرى رأس الحق مرفوع اللواء، وتحس البشرية لذاذات الحياة بما يُبقي على الحياة نفسها موكب النور “نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء” [النور، 35].
وغربة الإنسان في بعض الأحيان مع غيوم الشك المتراكمة على القلوب لم تمنع هذا النور أن يفجر من بركة الإيمان شلالا صافيا يسقي الكون بمن فيه وبما فيه، لينجب بعد المخاض مولود الإيمان ومن بين فرث الشرك ودمه لبنا خالصا سائغا للشاربين، ومن أشواك الكفر والجهل والجهالة وردا من وعي الضمير المنور ليمنح مرتاديه أطاييب التمر فيأخذ الإيمان طريقه إلى الحق.
أرسل تعليق