Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

الزيغ عن الهداية

      “ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة اِنك أنت الوهاب” [سورة اََل عمران، الآية: 8].

      هذا دعاء محكي عن الراسخين في العلم الذين آمنوا بكتاب الله تعالى بما فيه من المحكمات والمتشابهات لقوله تعالى: “والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الاَلباب” [سورة اَل عمران، جزء من الآية: 7][1]. لا يكتفي هؤلاء بهذا الإيمان، وإنما يطلبون من الله تعالى أمرين لا يستغني عنهما إنسان في هذا الوجود. يطلبون أولا الرحمة لقوله تعالى: “وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب”. والملاحظ هنا أن لفظ “رحمة” لما ذكر هنا على سبيل التنكير شمل جميع أنواع الرحمة الإلهية، ومنها دوام هداية الإنسان، ولطفه… فالراسخون في العلم قصروا هبة الرحمة على الله تعالى؛ لأن هبات الناس بالنسبة لما أفاض الله تعالى من الخيرات الشاملة والعامة شيء لا يعبأ به.

      ويطلبون ثانيا عدم الزيغ عن الهداية لقوله تعالى: “ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا”. نلاحظ ابتداء أن في إسناد الهدى إلى الله تعالى أدب يتوسل به في تحقيق هذا الدعاء؛ لأن الهداية كرم وعطاء إلهي، والشأن في الكريم عدم الرجوع في ما وهبه وأعطاه، ولهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ الله تعالى من السلب بعد العطاء.

      إن الراسخين في العلم من الناس، على الرغم من سلامة عقولهم ودقة أفهامهم وأصالة آرائهم ليسوا بمنأى عن الزيغ[2]، والزيغ أنواع وأشكال، وصور وألوان. والحق أن الإنسان بصفة عامة، مهما بلغت مداركه العلمية في الفهم والتحليل، وفي التركيب والاستنتاج، وفي الاستقصاء والتتبع… يظل ملاحقا بعوارض وبآفات التقلب والنسيان، والذهول والتراجع، والنقص والضعف التي تستمد وجودها من خلل إرادي أو غريزي في ذاته أو من دواع التأثر السلبي بظروف البيئة المحيطة به. ولهذا احتاج بسبب كل ذلك، ليس فحسب إلى المثابرة في تنمية مهاراته وفي استئناف عمليات تصحيح مداركه ومعطياته، وإنما يحتاج أيضا إلى أن يتضرع إلى الله عز وجل ويتذلل بين يديه حتى يحفظه من أنواع الزيغ العارض فيهبه الثبات على ما هو حق وهداية إليه[3].

      وعلى كل خال إن الراسخين في العلم هم أولى الناس بإدراك قيمة الهداية بعد أن كانوا في الضلال. قيمة الهداية المنهجية؛ لأنهم ضبطوا هدفهم وحددوا وجهاتهم بكل وضوح. وقيمة الاهتداء الوجودية؛ لأن إيمانهم بالله جعلهم متحررين من كل ما يعبدهم لغير الله. وقيمة الاهتداء النفعية؛ لأنهم يتطلعون إلى الأعمال الكبيرة بعد أن كانوا مشغولين بصغائرها. وقيمة الاهتداء المستقبلية؛ لأنهم يتطلعون دائما إلى المستقبل ولا يرجعون إلى الماضي إلا بالقدر الذي يفيد الحاضر.

———————————–

  1.  قال تعالى: “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاَويله وما يعلم تاَويله إلا الله” [سورة اَل عمران، جزء من الآية: 7].

  2.  وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو: “يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك”. سنن الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، رقم 2140.

  3.  قال الإمام بن عاشور: “لا يدري المؤمن ولا العاقل ولا الحكيم ولا المهذب: أية ساعة تحل فيها به أسباب الشقاء. وكذلك لا يدري الشقي ولا المنهمك الأفن: أية ساعة تحف فيها به أسباب الإقلاع عما هو متلبس به من تغير خلق، أو تبدل خليط”. ابن عاشور، التحرير والتنوير ج 3 ص 170. وينظر أيضا رشيد رضا، تفسير المنار ج 3 ص 230.

التعليقات

  1. البرهمي مصطفى

    ان هده الاية من بين ثلاث ايات التي كلفتني أيها الدكتور العزيز بدراستها وفي مقالتك هده مادة دسمة يمكن الاعتماد والرجوع اليها .واني لجد مسرور بالعثور على هده المادة العلمية التي وضحت ورسمت لي معالم المنهج الدي يمكنني أن أسير عليه .فجزاك الله عني خير الجزاء وزادك الله علما وسدادا وتوفيقا…

أرسل تعليق