الزعامة في العائلات الصوفية: بيت أبي المحاسن الفاسي نموذجــا.. (2)
2. مؤهلات الخلفاء الجدد
لا تتحدث المصادر، بما فيها كتابات العائلة الفاسية، عن وقوع أي خلاف بين ورثة أبي المحاسن. كما تتفق جميعها على القول بأن أبا زيد عبد الرحمن الفاسي[1]، هو الذي ورث أخاه أبا المحاسن.
وتم القبول بهذا الرأي، حتى صار من الأحكام المعتادة والمكررة في المصادر، سيما وأن تضلُّع أبي زيد عبد الرحمن في علوم الظاهر، وتـمكنـه القوي من أدوات وأسـرار الـتربيـة الـصوفيـة، لا تساعد على الطعن في وراثته، أو حتى طرح مثل هذا الرأي للمناقشة. بل لقد أوردت مختلف المصادر من الشواهد ما يعزز مكانته وأحقيته في المشيخة خلفا لأخيـه على رأس الزاوية الفاسية الكبرى، وشتـى “أحزاب” طائفتهـا. وليس أدل على ذلك من اتفاق معاصريه على نعتـه باســم له دلالته الهامة في عالم التصوف، هو: “عبد الرحمن العارف“[2]. وكان عبد الرحمن العارف، من جهته، واثقا من علو مقامه، فكان يعتبر نفسه الشيخ الكامـل في المغـرب قاطبة، على نـحو قـولـه: “لو عرفت من عنده هذه الرائحة التي لنـا على مسيرة عشرة أيام أو خمسة عشر أو عشرين لسرت إليه، إشارة إلى انفراده بالشيخوخة (كذا).. “[3].
لكن رغم هذا الاتفاق، نجد أنفسنا مضطرين إلى فتح النقاش حول هذا الموضوع. ولنا في فتحه مبررات، أهمها أن تصدر الشيخ عبد الرحمن العارف للمشيخة خلفا لأخيه أبي المحاسن المتوفى (سنة 1013 هـ/ 1604م) تأخر كثيرا، أو قُلْ: إن عوائق منعته من مباشرة عمله الذي تخوله له وراثته للشيخ الهالك. نقول هذا الكلام؛ لأن المصادر المعتمد عليها نفسها تذكر أنه لما تصدر للمشيخة[4]، “لم يخرج معه من أول مرة من أصحاب شيخه أبي المحاسن غير أبي عبد الله امحـمد بن محمد بن عبد الله بن معن الأندلسي أصلا الفاسي دارا، فكانا يجلسان بباب الرواح بجامع القرويين، فبقيا على ذلك سنين، ثم جعل أصحاب شيخهما يتلاحقون حتى اجتمع جماعة من المعتبرين منهم على الشيخ أبي محمد عبد الرحمن.. “[5]
ويفهم من المصادر نفسها أن عبد الرحمن العارف ظل يجتمع بأصحابه في القرويين حَوْلَيْنِ كاملين. ثم انتقل عنها لما تكاثر أتباعه، وصعب عليه ممارسة الشعائر الصوفية بها معهم، حسبما يفهم من كلام صاحب المقصد، الذي جاء فيه: “جعل الناس من أصحاب أخيه وغيره يأتون إليه [بالقرويين] واحدا واحدا، ويجتمعون عليه هنالك حتى كثروا، ثم انتقل عنها لسبب اقتضى ذلك، فجلس لأصحابه بالمسجد المجاور لداره، وهو المسجد المعلق الذي بوادي الشرفاء بأول حومة القلقليين من فاس القرويين، وابتدأوا في قراءة الأحزاب“، وكان ذلك في صبيحة (29 رمضان 1015هـ/1607م). فهل تعني كلمة “ابتدأوا” أن الشيخ العارف لم يسبق له أن اجتمع مع أصحابه في حلقة ذكر قبلئذ؟
يبدو ذلك فعلا، حتى إنه لما اجتمع بأصحابه في اجتماع الافتتاح بالمسجد المعلق: “لم يحضر معه من يحفظ حزب الشيخ أبي المحاسن بكامله، وخصوصا منه المعشرات والوظيفة الزروقية.. “، مما جعله يسقطهما نهائيا، ثم أدخل تعديلا مهما على فترات الاجتماع للذكر، حيث ألغى فترة ما بعد الظهر، واقتصر على فترتي ما بعد صلاتي الصبح والمغرب[6]. واستمر على ذلك حتى بعد أن انتقل للاجتماع بأصحابه (سنة 1027هـ/1618م)، في زاويته التي بناها أمام داره بباب حومة القلقليين في السنة نفسها[7] .
ويفهم من هذا كله، وهذا هو المهم، أن الشيخ عبد الرحمن العارف لم يجتمع قط بمن اتبعه في الزاوية الفاسية الأولى بحومة المخفية، خلفا لشيخه، وأخيه أبي المحاسن. فهل تعطلت بها عادة الاجتماع بعد وفاة شيخها المؤسس لها، ورحيل “وارث سره” عنها؟
الواقع أن الأمر ليس كذلك، ويظهر لنا أن مشيخة الزاوية الفاسية الأولى آلت بعد وفاة أبي المحاسن، لابنه أبي العباس أحمد المشهور بلقب الحافظ، ولنا في هذا الاعتقاد ما نستند إليه؛ فهو أولا، ابن لأبي المحاسن، والابن أقرب من الأخ، سيما إذا لم يكن هذا الأخ شقيقا، كحــال عبد الرحمن العارف مع أبي المحاسن[8]. وهو، ثانيا: عالم ومتصوف، بل يضاهي عمه في العلم والتصوف؛ فهو وإن لم يلقب “بالعارف” مثله، فقد خلف مصنفات في التصوف تشهد له بعلو المقام في طريق القوم، مثل شرح رائية الشريشـي في السلوك، وشـرح العمدة في علوم الحـديث للمقدسـي، ورسـالة في الكلام على الذكر جمــاعة، ورسالة ثانية سماهـا “حكم السماع“، وغيرها[9]. أما في علوم الشريعة فيكفي علما أنه سمي “بحافظ المغرب” في زمانه[10].
يتبع في العدد المقبل..
————————————–
1. ولد عبد الرحمن الفاسي بالقصر الكبير، مثل أخيه أبي المحاسن، وذلك في (محرم 972هـ/ غشت 1564م)، قبل عاميـن من وفاة والده، ومع ذلك وجد الحياة ممهدة له، بفضل العناية الفائقة التي لقيها من أبي المحاسن، وهكذا حفظ القرآن، وأمهـات الكـتب في القصـر الكبـير، ثم بعثـه أخوه، أبو المحاسـن إلى فـاس لمواصلة دراسته، وقد لقي بها كبار علماء زمانه، كأبي زكريا يحيى السراج، وأبي محمد عبـد الواحـد الحميدي، وأبي العباس أحمد المنجور، وأبي عبد الله محمد القصـار، فانتفـع بهم كثيرا، وأدرك منهم عـدة إجازات، وحصل على علم غزير في فنون شتى، ولاسيما في النحو واللغة والفقه والأصـول وعلـم الكـلام والمنطـق، وأصبح إماما فيها، ومدرسا لها، متوسعا في الأصلين والحـديث والتصـوف. كما دخل طريق القوم على يد أخيه، وصار مثله من المجاذيب السالكين، بل لقد ظل الجذب أغلب عليه، ومن ثمة اقتصر بعد “أن تـماسـك” على قـراءة التفسيـر والحديث وكـتب القـوم، وعكف على التأليف فيها، فأخرج كتبا تدل على شـدة علمه وعمق “عرفانه“. ومن مؤلفاته: “حاشية على دلائل الخيرات، وحاشية على الحزب الكبير للشاذلي، وحاشية على المحلى، وتفسير الفاتحة على طريق الإشارة، وغيرها من التقاييد.. “، راجع: عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسـي، أزهار البستان في مناقب الشيخ أبي محمد عبد الرحمن، م. خ. خ، الرباط، رقم: 583، ص: 10-12، 16/22.
م. المهدي الفاسي، ممتع الأسماع.. مصدر سابق، ص: 142- 143 .
م. بن الطيب القادري، نشر المثاني.. مصدر سابق، ج: 1، ص: 266/268.
م. محمد ابن عيشون الشراط، الروض العطر الأنفاس بأخيـار الصالحين من أهل فاس، تحقيق زهراء النظام، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ، مرقونة، (1409هـ/1989م)، خزانة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ص: 120، 121 .
م. بن الطيب القادري، نشر المثاني.. مصدر سابق، ج: 1، ص: 267.
2. م. عبد الرحمن الفاسي، أزهار البستان.. مصدر سابق، ص: 18 .
وكتب المؤلف معلقا: “وليس هذا نفيا لوجود مطلق الولاية، فقد كان في الوقت من البهاليل وأهل الأحوال غير واحد، ولم يرادوا بالنفي، إنما المنفي الشيخ الكامل” (المصدر نفسه).
3. م. عبد الرحمن الفاسي، أزهار البستان.. مصدر سابق، ص: 18 .
وكتب المؤلف معلقا: “وليس هذا نفيا لوجود مطلق الولاية، فقد كان في الوقت من البهاليل وأهل الأحوال غير واحد، ولم يرادوا بالنفي، إنما المنفي الشيخ الكامل.. ” (المصدر نفسه).
4. م. المهدي الفاسي، ممتع الأسماع.. مصدر سابق، ص: 147.
5. راجع: المصدر نفسه، ص: 144.
عبد السلام بن الطيب القادري، المقصد الأحمد في التعريف بسيدنا ابن عبد الله أحمد،طبعة حجرية بفاس 1351هـ، ص: 281 .
م. بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس.. مصدر سابق، ج: 2، ص: 305.
6. عبد الرحمن الفاسي، أزهار البستان.. مصدر سابق، ص: 86.
عبد الحفيظ الفاسي، الترجمان.. مصدر سابق، ص: 51 بـ – 52 أ.
7. م. المهدي الفاسي، ممتع الأسماع.. مصدر سابق، ص: 144.
عبد السلام بن الطيب القادري، المقصد.. مصدر سابق، ص: 281.
م. بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس.. مصدر سابق، ج: 2، ص: 305.
8. خلف أبو المحاسن أربعة ذكور، أكبرهم سنا يسمـى محمد، المولود (سنة 958 هـ/1551م)، والمتوفى في حيـاة والــده (سنة 998هـ/1590م). ويسمى الثاني عليا، المولود (سنة 960 هـ/1553م)، وقد أوطن القصر الكبير بإذن والده، وكان مقدما على “الحزب التطواني” في الطائفة الفاسية، إلى أن توفي (سنة 1030هـ/1620م). ثم أحمد الحافظ، ومحمد العربي صاحب مرآة المحاسن، وقد صحبا والدهما إلى فاس وأقاما بها، وكان أحمد أكبر سنا من العربي.
9. م. بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس.. مصدر سابق، ج: 2، ص: 303.
10. م. بن الطيب القادري، التقاط الدرر ومستفاد المواعظ والعبر من أخبار أعيان المائة الحادية والثانية عشر، تحقيق هاشم العلوي القاسمي، مطبعة دار الآفاق الجديدة، بيروت، (1403هـ/1983م)، ص: 56. م. بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس.. مصدر سابق، ج: 2، ص: 34.
أرسل تعليق