الدعاء والتناقض البشري
يقول عز وجل “وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما ءَاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون” [النحل، 53-55].
سيقت الآيات في مقام اعتقادي ينبه الله عز وجل من خلاله الإنسان إلى ما في الكون من آيات تشهد على ربوبيته ودقة تدبير لما خلق من سماوات وأرض ولما خلق فيهما من مخلوقات متنوعة. وهو مضمون قوله تعالى: “اَوَ لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيَّؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الاَرض من آية والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يومرون“ِ [النحل، 48- 50].
يبدو من هذا المقام أن المعنى المقصود من الآيات إرجاع النعم التي يرفل بها المسلمون إلى الله عز وجل. والدليل على ذلك، انطلاقا من هذه الآيات، أنه ما أن يمس الناس ضر فإنهم يلجأون إلى الله تعالى متضرعين بالدعاء إليه أن يكشفه عنهم. ومن تناقض فريق من هؤلاء أنه عندما يرفع عنهم الله تعالى الضر فإنه سرعان ما يشركون، فبقدر ما يسجل كتاب الله تعالى في هذا المقام كفران المشركين فإنه يظهر رأفة الله سبحانه بهم بكشف الضر عنهم عند التجائهم. بكلمة أخرى من رحمة الله بالناس أنه يكشف الضر عنهم على الرغم من علمه بأن من أولئك من يشرك به. يقع هذا الفريق من الناس في الشرك من أجل الكفر لقوله تعالى: “ليكفروا بما ءَاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون“. اللام هنا للتعليل[1]. متعلقة بفعل “يشركون” الذي هو جواب قوله تعالى: “إذا كشف الضر عنكم“.
وعلى كل حال يصور لنا القرآن المجيد من خلال هذه الآيات أنموذجا من البشر يبلغ به الجحود والنسيان والكفر إلى أن يعيش حالتين متباينتين: الأولى حالة ما يصيبه الضر فيلجأ إلى الجؤار[2] إذ يرفع صوته بالدعاء وبالاستغاثة كما نص على ذلك قوله: “ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون“. والثانية حالة ما يكشف الله تعالى عنه الضر فيسقط في مهاوي الشرك. وهكذا يعيش هذا الأنموذج البشري نوعا من أنواع التناقض. والحق أنه كما قال الأستاذ سيد قطب: “أنموذج متكرر في البشرية. ففي الضيق تتوجه القلوب إلى الله لأنها تشعر بالفطرة ألا عاصم لها سواه. وفي الفرح تتلهى بالنعمة والمتاع، فتضعف صلتها بالله، وتزيغ عنه ألوانا من الزيغ تبدو في الشرك به“[3].
————————————–
1. سمى كثير من النحاة وبعض المفسرين هذه اللام لام العاقبة. ينظر تفسير ابن كثير ج: 2- ص: 573.
2. يقال جأر يجأر جؤارا.
3. سيد قطب، في ظلال القرآن ج: 14- ص: 2177.
أرسل تعليق