الدعاء بين الجحود والظلم
يقول عز وجل في محكم كتابه العزيز: “وءَاتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الاِنسان لظلوم كفار” [اِبراهيم، 36].
تنطوي الآية الكريمة على مفارقة مفادها أن ظلم الإنسان وجحوده مقابل لنعم الله تعالى. فعلى الرغم من تتابع الظلم والجحود من طرف عموم النوع الإنساني فثمة استرسال إلهي في الإنعام؛ لأن الله تعالى يؤتي الإنسان كل ما يسأله ويطلبه. وعلى كل حال سيقت الآية في مقام يقص الله تعالى من خلاله النعم التي أنعم بها على الإنسانية عامة، وعلى عرب الجاهلية خاصة. فمن النعم العامة ما جاء في قوله تعالى: “الله الذي خلق السماوات والاَرض أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الاَنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل النهار” [اِبراهيم، 34-35]. ومن النعم الخاصة ما جاء في دعاء إبراهيم الذي حكاه قوله تعالى: “وإذ قال اِبراهيم رب اجعل هذا البلد ءَامنا واجنبني وبني أن نعبد الاَصنام” [اِبراهيم، 37].
وقد جمع الله تعالى نعمه الظاهرة والباطنة، في صيغة كلية أو في قالب قول جامع نص عليه قوله عز وجل: “وءَاتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الاِنسان لظلوم كفار” [إبراهيم، 36]. قيل إنما قال ذلك على التكثير نحو قول القائل: فلان يعلم كل شيء وأتاه كل الناس، وهو يعني بعضهم. وقيل: وآتاكم من كل الذي سألتموه والذي لم تسألوه، وذلك أن العباد على الرغم من أنهم لم يسألوه الشمس والقمر والليل والنهار فإن الله تعالى خلق ذلك لهم[1]. قال الزمخشري: “من للتبعيض، أي أتاكم بعض جميع ما سألتموه نظرا في مصالحكم“[2].
والحق أن النعم التي أنعم الله تعالى بها على الناس تعز عن الحصر ولا يمكن ضبط أعدادها النوعية والجنسية. يستوي في ذلك ما سأله الناس وطلبوه من ربهم، أو ما لم يسألوه مما خطر على بالهم أو لم ولن يخطر على بالهم مثل نعمة التنفس ونعمة الحواس ونعمة هضم الطعام والشراب ونعمة الدورة الدموية ونعمة الصحة والعافية..
وفي مقابل هذا الإنعام الإلهي يكون الظلم والكفر من الإنسان الكافر الظالم لقوله تعالى: “إن الاِنسان لظلوم كفار” [اِبراهيم، 36] قال الرازي: “إنه تعالى قال في هذا الموضع: “إن الإنسان لظلوم كفار” وقال في سورة النحل: “إن الله لغفور رحيم” [النحل، 18]. ولما تأملت فيه لاحت لي فيه دقيقة كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها، فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما كونك ظلوما كفارا، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفورا رحيما. والمقصود كأنه يقول: إن كنت ظلوما فأنا غفور، وإن كنت كفارا فأنا رحيم أعلم عجزك وقصورك فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير، ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء، ونسأل الله حسن العاقبة والرحمة”[3].
—————————————————
1. تفسير الطبري، ج: 13، ص: 226.
2. الزمخشري، الكشاف، ج: 2، ص: 523.
3. الرازي، مفاتيح الغيب، ج: 19، ص: 108.
أرسل تعليق