الخطاب الشرعي والقواعد النسقية للتأويل.. (5)
[صور التعارض]
وأما الوصف الثاني فله وجهان أيضا
أولهما: “ما فيها من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته وصفاته العلا وعلى الدار الآخرة”[1]. والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة منها قوله تعالـى: “قل لمن الاَرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله” [المومنون، 85].
وثانيهما: كونها منة من الله سبحانه ونعمة تفضل بها الحق على عباده، وهذا المعنى مبثوث في القرآن على وجه يفوق الحصر حيث قال تعالى في معرض الامتنان: “الذي جعل لكم الاَرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء” [البقرة، 21]، وقال أيضا: “هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر” [ النحل، 10]، وقال أيضا: “والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تاكلون” [النحل، 5] إلى غير ذلك من النعم والمنن الحسية والمعنوية التي ليس في وسع البشر إحصاؤها ولا عدها، “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها” [النحل، 18].
فتحصل من هذا التقرير أن الوصفين متضادان، “فالوجه الأول من الوصف الأول يضاد هذا الوجه الأخير من الوصف الثاني، وهو ظاهر لأن عدم اعتبارها وأنها مجرد لعب لا محصول له مضاد لكونها نعما وفضلا. والوجه الثاني من الوصف الأول مضاد للأول من الوصف الثاني؛ لأن كونها زائلة وظلا يتقلص عما قريب مضاد لكونها براهين على وجود الباري ووحدانيته واتصافه بصفات الكمال، وعلى أن الآخرة حق“[2].
وإذا كان من المسلم به أن الشريعة منزهة ومبرأة من التضاد والاختلاف، فإن التعارض المتوهم في هذه الصورة يمكن رفعه بناء على تفصيل قرره الشاطبي، وبيانه أن الدنيا يمكن أن ينظر إليها من وجهين:
وجه مفصول عن الحكمة التي وضعت الدنيا على مقتضاها، حيث ينظر إليها باعتبارها “مقتنصا للذات ومآلا للشهوات انتظاما في سلك البهائم“[3].
ووجه موصول بالحكمة التي وضعت الدنيا على مقتضاها، حيث ينظر إليها باعتبارها “ملأى من المعارف والحكم” وأنها “مبثوث فيها من كل شيء خطير مما لا يقدر على تأدية شكر بعضه“[4].
“فالدنيا من جهة النظر الأول مذمومة، وليست بمذمومة من جهة النظر الثاني بل هي محمودة، فذمها بإطلاق لا يستقيم ، كما أن مدحها بإطلاق لا يستقيم، والأخذ لها من الجهة الأولى مذموم يسمى أخذه رغبة في الدنيا وحبا في العاجلة، وضده هو الزهد فيها وهو تركها من تلك الجهة، ولاشك أن تركها من تلك الجهة مطلوب، والأخذ لها من الجهة الثانية غير مذموم، ولا يسمى أخذه رغبة فيها ولا الزهد فيها من هذه الجهة محمود بل يسمى سفها وكسلا وتبذيرا، ومن هنا وجب الحجر على صاحب هذه الحالة شرعا، ولأجله كان الصحابة طالبين لها مشتغلين بها عاملين فيها؛ لأنها من هذه الجهة عون على شكر الله عليها وعلى اتخاذها مركبا للآخرة، وهم كانوا أزهد الناس فيها وأورع الناس في كسبها، فربما سمع أخبارهم في طلبها من يتوهم أنهم طالبون لها من الجهة الأولى لجهله بهذا الاعتبار، وحاش لله من ذلك، إنما طلبوها من الجهة الثانية فصار طلبهم لها من جملة عباداتهم، كما أنهم تركوا طلبها من الجهة الأولى، فكان ذلك أيضا من جملة عباداتهـم رضي الله عنهم”[5].
يتبع في العدد المقبل..
—————————–
1. الموافقات، 4/225.
2. الموافقات، 4/227.
3. نفسه، 4/227.
4. نفسه، 4/228.
5. الموافقات، 4/228-229.
أرسل تعليق