الخطاب الشرعي والقواعد النسقية للتأويل.. (3)
[التعارض ومبدأ اتساق النسق الشرعي]
أن إثبات الاختلاف في الشريعة يؤدي إلى محذور التكليف بما لا يطاق، وبيانه أن الدليلين “إذا فرضنا تعارضهما وفرضناهما مقصودين معا للشارع فإما أن يقال إن المكلف مطلوب بمقتضاهما أولا أو مطلوب بأحدهما دون الآخر والجميع غير صحيح، فالأول يقتضي “افعل” “لا تفعل” لمكلف واحد من وجه واحد، وهو عين التكليف بما لا يطاق، والثاني باطل لأنه خلاف الفرض، وكذلك الثالث إذ كان الفرض توجه الطلب بهما فلم يبق إلا الأول فيلزم منه ما تقدم“[1]، فتعين أنه لا يتصور توجه الخطاب المتخالف إلى المخاطب من الشارع الحكيم، فلم يبق إلا القول برفع التناقض إجمالا وتفصيلا، وإذاك يتحقق الامتثال والخروج من العهدة.
ثبوت الترجيح بين الأدلة المتعارضة إذا تعذر الجمع بينها أو تعذرت معرفة المتقدم من المتأخر وذلك باتفاق الأصوليين، “والقول بثبوت الخلاف في الشريعة رفع باب الترجيح جملة، إذ لا فائدة فيه ولا حاجة إليه على فرض ثبوت الخلاف أصلا شرعيا لصحة وقوع التعارض في الشريعة، لكن ذلك فاسد، فما أدى إليه مثله”[2].
هذا أمر في غاية الوضوح والظهور، بل مسلم عند جمهور المحققين من العلماء، والذي يتحصل في هذا الموطن “أن كل من تحقق بأصول الشريعة فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض، كما أن كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه، لأن الشريعة لا تعارض فيها البتة، فالمتحقق بها متحقق بما في الأمر، فيلزم أن لا يكون عنده تعارض، ولذلك لا تجد البتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف”[3].
ولا يفوتني في هذا المقام أن أسوق نصا بديعا للقاضي أبي بكر الباقلاني يقرر ما سبق بيانه، وقد أورده الخطيب البغدادي في الكفاية، يقول: “حدثني محمد بن عبيد الله المالكي انه قرئ على القاضي أبي بكـر محمد بن الطيب قال: الأخبار
على ضربين: ضرب منها يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكلم به إما بضرورة أو دليل، ومنها ما لا يعلم كونه متكلما به، وكل خبرين علم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلم بهما فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه وإن كان ظاهرهما متعارضين، لأن معنى التعارض بين الخبرين والقرآن من أمر ونهي وغير ذلك، أن يكون موجب أحدهما منافيا لموجب الآخر، وذلك يبطل التكليف إن كان أمرا ونهيا وإباحة وحظرا، أو يوجب كون أحدهما صدقا والآخر كذبا إن كانا خبرين، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم منزه عن ذلك أجمع ومعصوم منه باتفاق الأمة، وكل مثبت للنبوة.
وإذا ثبت هذه الجملة وجب -متى علم أن قولين ظاهرهما التعارض ونفي أحدهما لموجب الآخر- أن يحمل النفي والإثبات على أنهما في زمانين أو فريقين او على شخصين أو على صفتين مختلفتين، هذا ما لابد منه مع العلم بإحالة مناقضته صلى الله عليه وآله وسلم في شيء من تقرير الشرع والبلاغ”[4].
يتبع في العدد المقبل…
————————————————
1. الموافقات ، 4/87.
2. نفسه، 4/88.
3. نفسه، 4/217.
4. الكفاية في علم الرواية، ، ص 433، دار الكتب العلمية، بيروت. –(د.ط.ت).
أرسل تعليق