الخطاب الشرعي والقواعد النسقية للتأويل.. (2)
التعارض ومبدأ اتساق النسق الشرعي
ينطلق الأصوليون بصدد ظاهرة التعارض[1] من مبدإ عام يمكن تسميته “مبدأ اتساق النسق الشرعي”، ومقتضاه أن الشريعة كلها ترجع في أصولها وفروعها إلى قول واحد[2].
والدليل على امتناع تطرق التناقض أو التخالف إلى النسق الشرعي ما يلي:
ما ورد في القرآن الكريم من الآيات المؤكدة لهذا المعنى، منها:
قوله تعالى: “أفلا يتدبرون القرءَان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا” [النساء، 81]، ووجه الدلالة فيه أنه “نفى أن يقع فيه الاختلاف البتة، ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال”[3]. فلما انتفى الاختلاف فيه انتفى التعارض المؤدي إليه، إذ أن نفي اللازم يؤذن بانتفاء الملزوم.
وقوله تعالى: “فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول” [النساء، 58]. “وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف، فإنه رد المتنازعين إلى الشريعة وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شيء واحد، إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفع تنازع، وهذا باطل”[4].
ونجد ابن حزم يسوق هذه الآية وهو في معرض تقرير هذا المعنى بعد الاستدلال بعدة آيات، يقول: “فأخبر عز وجل أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وحي من عنده كالقرآن في أنه وحي[5]، وفي أنه كل من عند الله عز وجل، وأخبرنا تعالى أنه راض عن أفعال نبيه صلى الله عليه وسلم[6]، وأنه موافق لمراد ربه تعالى فيها لترغيبه عز وجل في الاتساء به عليه السلام. فلما صح أن كل ذلك من عند الله تعالى، ووجدناه تعالى قد أخبر أنه لا اختلاف فيما كان من عنده تعالى، صح أنه لا تعارض ولا اختلاف في شيء من القرآن والحديث الصحيح وأنه كله متفق -كما قلنا- ضرورة”[7].
– ثبوت الناسخ والمنسوخ في الشريعة: “فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات المنسوخ من غير نص قاطع فيه فائدة، ولكان الكلام في ذلك كلاما في ما لا يجني ثمرة، إذ كان يصح العمل بكل واحد منهما ابتداء ودواما، استنادا إلى أن الاختلاف أصل من أصول الدين، لكن هذا كله باطل بإجماع، فدل على أن الاختلاف لا أصل له في الشريعة، وهكذا القول في كل دليل مع معارضه، كالعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، وما أشبه ذلك”[8].
يتبع في العدد المقبل…
——————————————-
1. ميز الإمام الشاطبي بين نوعين من التعارض هما: التعارض الذاتي أو الحقيقي أو ما يعتبر من جهة ما في نفس الأمر، والتعارض الإضافي أو النسبي، وهو ما يعتبر من جهة نظر المجتهد. أما النوع الأول فممتنع بإطلاق لأنه يخرم هذا المبدأ العام وأما الثاني فممكن بلا خلاف لأنه آيل عند تحصيل النظر إلى التوافق، ويلزم المصير فيه إلى التوفيق ورفع التعارض حسب القواعد المسطورة. انظر الموافقات 4/217.
2. الموافقات، 4/85.
3. الموافقات، 4/86.
4. الموافقات، 4/86.
5. يقصد قوله تعالى: “وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى” [النجم، 3-4].
6. يقصد قوله تعالى: “لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة“، [الاَحزاب، 21].
7. الإحكام في أصول الأحكام، 2/35.
8. الموافقات 4/87.
أرسل تعليق