الخطاب الشرعي والقواعد النسقية للتأويل.. (13)
أقسام العرف
والعرف قسمان، قولي وعملي؛ فالعرف القولي: “هو ما شاع بين الناس من استعمال ألفاظ وتراكيب في معنى خاص، بحيث يصبح ذلك المعنى هو المتبادر منها إلى الذهن عند الإطلاق بلا قرينة ولا علاقة عقلية“[1].
ويرى ابن فرحون “أن العادة في اللفظ أن يغلب استعمال لفظ في معنى حتى يصير هو المتبادر إلى الذهن من ذلك اللفظ عند الإطلاق، مع أن اللغة لا تقتضيه، وهو الحقيقة العرفية والمجاز الراجح، وهو معنى قول الفقهاء العرف يقدم على اللغة“[2]، وذلك كإطلاق لفظ الدابة على حيوان مخصوص، وإطلاق لفظ الولد على الذكر دون الأنثى وكأن يطلق لفظ اللحم على ما دون لحم السمك[3]، “وهذه العادة تخص العموم إذا بلغ الاستعمال إلى حد النقل وهجر الأول أو صار كالمهجور“[4]. ومن هنا يتضح أن العرف القولي يؤثر في الألفاظ من حيث التخصيص[5].
أما العرف العملي[6] فهو اعتياد الناس جملة من الأفعال والتصرفات مما له تعلق بشؤون الحياة والمعاملات المدنية، ومنشأ هذا القسم هو التعامل والممارسة العملية. ومن نماذج تخصيص العموم بالعرف العملي ما ذهب إليه الإمام مالك من إخراج المرأة الشريفة من عموم قوله تعالى: “والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين” [البقرة، 231] استنادا إلى العرف. جاء في تفسير القرطبي: “واختلف الناس في الرضاع هل هو حق للأم أو هو حق عليها، واللفظ محتمل، لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها لقال: وعلى الوالدات رضاع أولادهن كما قال تعالى: “وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن”[ البقرة، 231]، ولكن هو عليها في حال الزوجية، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط، إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها ألا ترضع، وذلك كالشرط”[7].
يتبع في العدد المقبل….
——————————-
1. العرف والعمل في المذهب المالكي ومفهومهما لدى علماء المغرب، عمر الجيدي، ص: 94، وانظر كذلك الفروق، للقرافي، 1/171.
2. تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام،2/57- طبع الحلبي على هامش فتاوي عليش، 1958.
3. أصول الفتوى والقضاء، للدكتور محمد رياض، ص: 451.
4. الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة، حسن بن محمد الشاط، ص: 270، ط 2، 1990، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
5. شرح تنقيح الفصول، القرافي، ص: 212.
6. يلاحظ أن القرافي أنكر العوائد الفعلية في كتابه شرح تنقيح الفصول، حيث قال: “العوائد القولية تؤثر في الألفاظ تخصيصا ومجازا وغيره بخلاف العوائد الفعلية”، ص: 212. غير أنه صرح بقبولها في موضع آخر من كتابه المذكور حيث قال: “والعادة غلبة معنى من المعاني على الناس وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم كالحاجة للغذاء والتنفس في الهواء وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود والعيوب، وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالآذان للإسلام والناقوس للنصارى، فهذه العادة يقضى بها عندنا“، ص: 448.
7. الجامع لأحكام القرآن، 3/161، ط: 2، 1954 دار الكتب المصرية. وجاء في أحكام القرآن لابن العربي قوله: “والعادة إذا كانت شريفة ألا ترضع فلا يلزمها ذلك”، 4/288. انظر كذلك المدونة الكبرى للإمام مالك، 2/416، دار صادر، بيروت، (د.ت).
أرسل تعليق