الخطاب الشرعي والقواعد النسقية للتأويل.. (10)
[قواعد تخصيص العموم]
1ـ مفهوم التخصيص
لقد تبين من خلال الفصل الأول أن الأصوليين وهم بصدد بيان كيفيات ومراتب استفادة الدلالة من الخطاب الشرعي ما فتئوا يؤكدون على اعتبار المقتضيات التداولية للخطاب وبناء الممارسة التأويلية على هذه المقتضيات، إذ الدلالة في المنظور الأصولي لا تنفك أبدا عن التداول: فهي دلالة تنضبط بالسياق وتتحدد بالمقام وتنبني على القصد.
وبحث الأصوليين للعموم وآليات تخصيصه لا يشذ عن هذا التوجه التداولي العام، فالنصوص العامة سواء في الكتاب أو السنة لا تنفهم للمتأول بمعزل عن مخصصاتها، إذ يلزم الناظر فيها مراعاة “السياق الأوسع” الذي ينتظم العمومات ومخصصاتها لأنه الكفيل بالكشف عن مقاصد الشارع الدلالية. يقول الشاطبي: “فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال كثيرة ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان“[1].
وحاصل عبارات الأصوليين في معنى التخصيص باعتباره آلية من آليات التنسيق والبيان[2] أنه “قصر العام على بعض أفراده بدليل يدل على ذلك”[3].
أما القرافي فقد أورد تعريفا للتخصيص فصل فيه ما ورد مجملا عند سائر الأصوليين، كما بين محترزاته حيث قال: “وحد التخصيص عندنا هو إخراج ما يتناوله اللفظ العام أو ما يقوم مقامه بدليل يصلح للإخراج وغيره قبل تقـرر حكمـه”[4].
أما قوله: (أو ما يقوم مقامه) فيفيد اندراج التخصيص الواقع في المفهومات، وبيان ذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام: “إنما الماء من الماء”، “يقتضي مفهومه أنه لا يجب الغسل من القبلة ولا من جميع أنواع المباشرة، ولا من أكل الطعام ولا غير ذلك من الأجناس التي هي ليست بإنزال، وهذا السلب عام شامل لهذه الأجناس كلها من حيث المعنى، وقد يقع الاصطلاح على عدم تسميتها عموما، فإذا ورد قوله عليه الصلاة والسلام: “إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل” خرج من شمول هذا السلب التقاء الختانين، وصار موجبا للغسل، وأضيف لحكم المنطوق دون المفهوم”[5].
وأما قوله: (بدليل يصلح للإخراج وغيره) فهو احتراز من الاستثناء لكونه لا يصلح إلا للإخراج دون الإنشاء والتقرير[6]. كما أن القيد (قبل تقرر حكمه) أي حكم العموم يفيد إخراج النسخ من دائرة الحد “فإن التخصيص إنما هو بيان اطراد باللفظ العام دون غيره، أما إذا عمل به فهو مراد كله بناء على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فيكون الكل مرادا، فالمخرج بعد ذلك يكون مما هو مراد، فهو نسخ لا تخصيص، فإن فرعنا عليه جواز تكليف ما لا يطاق وأنه يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة جوزنا ورود التخصيص بعد العمل“[7].
يتبع في العدد المقبل..
———————————
1. الموافقات، 3/202.
2. يرى الشاطبي أن التخصيص سواء بالمتصل أو بالمنفصل راجع في أصله إلى بيان قصد المتكلم في عموم اللفظ، انظر الموافقات، 3/213.
3. مذكرة في أصول الفقه، الشنقيطي، ص 262. هذا وقد وردت عبارات أخرى مقاربة لمعنى القصر الذي حد به التخصيص، منها الإخراج كما في تعريف ابن جزي في التقريب، ص 76 ومنها التعيين كما في تعريف الباجي في إحكام الفصول، ص 48، ومنها التمييز كما ورد عند السمعاني في قواطع الأدلة، ص 283، ط 1، 1996، مؤسسة الرسالة، بيروت. وكلها عبارات تندرج تحت هذا المساق.
4. العقد المنظوم في الخصوص والعموم، 2/172.
5. العقد المنظوم، 2/173.
6. نفسه، 2/175.
7. نفسه، 2/176.
أرسل تعليق