الخطاب الشرعي والقواعد النسقية للتأويل.. (1)
تفيد القواعد النسقية في توجيه المتأول إلى استفادة دلالة النص الشرعي على وجه لا تكون فيه مناقضة لدلالات النصوص الأخرى التي تشاركه الانتماء إلى النسق الشرعي، حيث يتعين على الناظر مراعاة “العلاقات البيانية” القائمة بين نصوص النسق، يقول ابن حزم: “فأما وجوه البيان التي ذكرنا من التفسير والاستثناء والتخصيص ، فقد يكون بالقرآن للقرآن وبالحديث للقرآن وبالإجماع للقرآن، وقد يكون بالقرآن للحديث وبالحديث للحديث وبالإجماع المنقول للحديث، وقولنا الحديث إنما نعني به الأمر والفعل والإقرار والإشارة، فكل ذلك يكون بيانا للقرآن ويكون القرآن بيانا له“[1].
والقواعد النسقية في مجملها تكمن فائدتها الجوهرية في المحافظة على تماسك النسق الشرعي، بل في الكشف عن حقيقة الاتساق الذي يتصف به. وعليه فالممارسة التأويلية في هذا المساق تتوخى استنباط الدلالة الشرعية على مقتضى الجمع بين أدلة النسق الشرعي (نصية كانت أو غير نصية) وعلى شرط بيان وصف الاتساق القائم بها، “ومن ثم فإن استنباط الأحكام في المنظور الأصولي لا يقوم إلا على أساس من هذه النظرة المتكاملة لكل ما صدر عن المشرع، سواء تعلق الأمر بالقرآن والسنة من جهة أولى، أو بالسنة من حيث هي أقوال وأفعال وتقريرات من جهة ثانية، أو تعلق الأمر بهذين المصدرين مع بقية المصادر الأخرى، أصلية كانت أو فرعية من جهة ثالثة، نظرا للعلاقات المتداخلة بين هذه المصادر والراجعة بالأساس إلى وحدة مصدرها وغايتها“[2].
وإذا كان الأمر على النحو الذي تقرر، فإننا لا نعدم أمثلة حية على اهتمام الأصوليين بهذا النوع من القواعد، حيث نجدها متداولة ومندرجة تحت مباحث متنوعة استأثرت بفائق عنايتهم وثاقب أنظارهم.
ونحن في هذه الدراسة ماضون في تحرير القول في القواعد النسقية، وسينصب اهتمامنا على المسائل التالية:
المسألة الأولى: صور التعارض ومسالك الترجيح.
1ـ تعريف التعارض وبيان ركنه وحكمه:
ومعنى التعارض في الاصطلاح الأصولي هو: “التمانع بين الأدلة الشرعية مطلقا بحيث يقتضي أحدهما عدم ما يقتضيه الآخر“[3].
غير أن الشاطبي وسع من دائرة التعارض حيث لا يقتصر عنده على الأدلة فقط بل يشمل كل ما في معناها كتعارض القولين على المقلد، وتعارض العلامات وتعارض الأشباه وتعارض الأسباب وتعارض الشروط. قال مقررا هذا المعنى بعد كلام: “إلا أن الأدلة كما يصح تعارضها على ذلك الترتيب، كذلك يصح تعارض ما في معناها كما في تعارض القولين على المقلد، لأن نسبتهما إليه نسبة الدليلين إلى المجتهد، ومنه تعارض العلامات الدالة على الأحكام المختلفة، كما إذا انتهب نوع من المتاع يندر وجود مثله من غير الانتهاب، فيرى مثله في يد رجل ورع، فيدل صلاح ذي اليد على أنه حلال، ويدل ندور مثله من غير النهب على أنه حرام فيتعارضان، ومنه تعارض الأشباه الجارة إلى الأحكام المختلفة، كالعبد فإنه آدمي فيجري مجرى الأحرار في الملك، ومال فيجري مجرى سائر الأموال في سلب الملك، ومنه تعارض الأسباب كاختلاط الميتة بالذكية والزوجة بالأجنبية ، إذ كل واحدة منهما تطرق إليها احتمال وجود السبب المحلل والمحرم، ومنه تعارض الشروط كتعارض البينتين إذ قلنا إن الشهادة شرط في إنفاذ الحكم، فإحداهما تقتضي إثبات أمر والأخرى تقتضي نفيه“[4].
ويظهر من خلال التعريف الوارد أعلاه أن ركن التعارض وجوهره هو مطلق التمانع والتقاوم بين الأدلة سواء على جهة التساوي أو على جهة التفاضل، وسواء كان الفضل ذاتيا أي راجعا إلى ذات الأدلة كالتنافي بين القطعي والظني، أو وصفيا أي راجعا إلى الأوصاف القائمة بالدليل، كالتعارض بين الخبر المشهور والخبر الأحادي[5].
أما عن حكم التعارض بين الأدلة فإن المسلك العام الذي يتعين فيه حسب مذهب الجمهور[6]. يتمثل في الخطوات التالية:
أولا: الجمع بين المتعارضين؛
ثانيا: الترجيح عند تعذر الأول؛
ثالثا: اللجوء إلى النسخ؛
رابعا: الحكم بتساقط المتعارضين؛
خامسا وأخيرا: المصير إلى البراءة الأصلية، حيث يفرض كأن الدليلين غير موجودين..
يتبع في العدد المقبل..
—————————————–
1. الإحكام في أصول الأحكام، 1/81 . ط1، 1980، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
2. وظيفة القول الأصولي، مولاي إدريس ميموني، ص: 108، مرجع سابق.
3. التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية، عبد اللطيف البرزنجي، 1/23 ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996.
4. الموافقات، 4/219.
5. التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية، عبد اللطيف البرزنجي، 1/163.
6. هناك مذاهب أخرى في المسألة ولمزيد من التفصيل يرجع إلى التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية، عبد اللطيف البرزنجي، 1/167.
أرسل تعليق