الحياة قطارها فهم وتقنية وعلم
الحياة لا تكتمل إلا بازدواج الجسم والروح، وحياة الجسم تكتمل بحياة الروح، والجسم كلما كثر زاده، قل زاد الروح، وأن الجسم كلما قل زاده زادت الروح زادا. وزاد الروح عقل وفكر وفهم، وزاد الروح علم، ولكنه علم قليل وفهم قصير، والتقنية بها يكثر العلم القليل، والتقنية خير من يطيل الفهم القصير، فأعلنت أن التقنية أرجح علما، وعصر التقنية أكثر فهما، وأمعنت النظر فألفيت أن العلم كله في الكتاب، والتقنية مصدرها الكتاب، والكتاب من ورق مصنوع، وسطره من حرف مطبوع ومنشور، فالكتاب إذن تقنية، والعلم تقنية فأين منهما المهرب؟ ولو أن الإنسان اعتمد على الحيوان وحده ما وصلت التقنية إلى ما وصلت إليه، ولما شاهدنا هذا الاتساع المتسارع.
ولولا التقنية لما أقيمت مصانع ومعامل، ولولا التقنية لما شيدت هذه السدود لاختزان المياه لري الأراضي لزيادة الطعام والكساء لأهل الأرض، ولولا التقنية لضخ المياه لبقيت الأرض تحت أقدام البشرية صحراء بلا حياة، أليس غريبا أن تختفي الأرض بزحف الرمال والتصحر، فالتقنية أعادت للإنسان قيمته وعظمته، وإن الطبيعة في مسيرتها وتطورها المستمر، فرضت علينا التقنية بأشكالها فرضا وأنا حائر في أمر هذه التقنية لما لها من أسباب السعادة وما يتخللها من علل الشقاء في الحياة البشرية، إنها تسعدنا وتشقينا، وأكاد أقول أنها علة تعاسة الناس، وبالتقنية التي يوجهها العقل نكتشف الكثير من أسرار الحياة، فنتعاون معها حينا ونعدل من مسارها أحيانا والتقنية تسوق الناس للجري وراء آمال ووراء سراب متعب، وراء المجهول وما أفادت الإنسانية إلا الهم والتعب.
ومن غير التقنية نهرب من الحياة، ولماذا هذا الهروب؟ أهو شعور بالزهد في الحياة، وما تحمله لنا من مفاجئات؟ ومفاجئات التقنية الحديثة متباينة، لا تربطها ببعض أية رابطة، وبهذه المفاجئات التقنية التي تغزو حياتنا، هي نفسها التي تجعل للحياة تلك اللذة التي نحسها فيها، إننا نمشي في مشوار منذ طلوع الفجر وشروق الشمس حتى المغيب، وأحيانا كثيرة بعد المغيب، ليلا ونهارا، البعض يدمن البحث عبر قنوات التواصل الاجتماعية والشبكات العنكبوتية، فعشقوا الأنترنيت حتى حرموا أنفسهم من المتع المادية، وحرموا ذويهم من كثير من أوقاتهم، ذلك لأن الإنسان المعاصر، مدمن خمر ومدمن أفيون ومدمن عقل ومدمن تقنية، وهذا الأخير يكون في هم متصل: يجتر في ذهنه أتعاب الماضي وآلامه، ليله ونهاره مؤرق، والبعض في حاضره يعيش محنة تحطمه، ربما يكون في نعمة فهو دوما يخشى زوالها، لا يقنع بآلام الحاضر، بل يحمل أثقال هموم ما يخبئه له المستقبل، تضخمت مشاكله حتى صارت أكبر منه، كل هؤلاء أحياء ولكن لكل منه أفكار تؤرق نومه وتضاعف من سهاده.
وما جدوى التقنية التي تدفع الإنسان إلى الهرب من الحياة؟ إن كل شخص بين الحين والحين يحن إلى الماضي ببساطته، وما هي إلا سويعات حتى ينغمس بين ضوضاء الآلة وأضوائها وحشرجة أزيزها فيظل حبيسا بين تقنياتها، فهو لا يريد أن يهجرها لأنها أصبحت جزءا من حياته، بل هي حياته كلها لا يستطيع منها فكاكا لأنها مصدر الثروة والفهم، لقد حولت التقنية الإنسان إلى عاكف لا يمل وكأنه في محراب يتعبد فيه، وهذا هو مصدر الاستمرار في الحياة والصمود، لما تحمله هذه التقنية كل يوم من متاعب ومشاكل، غير عابئ بما يحدث من حوله، حتى إذا نال منه التعب أرخى رأسه فوق ذراعيه ونام حيث هو.
إن الإصرار هو الوقود الذي يدفع بالناس إلى الأمام، ويحرك فيهم الرغبة في الاستمرار في الحياة التي ألفتنا وألفناها، والناس فريقان: فريق يرى أن الحياة البسيطة التي يمثلها الماضي، أصبحت عاجزة أن تقدم للإنسانية ما تطمح إليه من تطور علمي وتقني، وأن الحياة البسيطة كسل وخمول وتواكل وتخلف وتأخر، إذ لابد من الميكانيك والتقنيات والإلكترون والكيمياء والفيزياء، وما شاكلها من مبتكرات العصر الحديث، والفريق الثاني: يجتر الماضي قانعا بالرتابة المملة، لأنها تحمل له ذكريات لذيذة جميلة، ما يزال يعيش معها وفي حضنها يرتع، ولا يريد أن يخرج من قفص الأجداد، حبيسا مكوما وسط جدرانه، وقديما قيل: “من شب على شيء شاب عليه”.
وما دامت الحياة في هذا الكون قرية صغيرة الحجم، قريبة المدى، مختزلة الزمان والمسافة والسرعة، ومادامت الحياة أخذا وعطاء، فمنتجات العصر التقنية، حظ من حظوظ الإنسانية جمعاء، وعجلة الحياة التقنية عاصفة هوجاء، من لم يركب قطارها لوحت به في نار السموم والتخلف المضني ، والإنسان العاقل الواعي سائر في طريقه بتؤدة وهدوء، خطوة خطوة بغير دعاية ولا ضجيج، عملا بالمثل العربي الذي يقول: (رويدا رويدا تصل).
والإنسان الذي يحترم إنسانية الناس، لا يعطل مسيرة الآخرين، إن لم يشارك غيره بدعم مادي يساعد على عراك الحياة، فإنه يحترم المجاهد المقدام، فهو واجبه في هذا المضمار، في درب الحضارة الصاعد أبدا.
ومن هذا المنطلق، ما لم تتضافر الجهود لاستغلال التقنية والعلمية الصحيحة التي لا بديل لها، إذا أردنا للبشرية النجاح والفلاح، لمواجهة مشكلات تواجه الإنسان في العصر الحديث، وهي تهدد مستقبل البشرية تلك هي مشكلات السكان وتصاعدهم بصيغة مرهبة مضطربة، والإنتاج الغذائي، والموارد الطبيعية المحدودة، والتصنيع الجنوني الجشع والتلوث، وأمتنا اليوم مطالبة أن تستغل أقصى ما وصل إليه العلم والتقنية، إذ لابد من دراسة أسبابها ونتائجها، ومع ذلك فالإنسانية نجحت نجاحا ما بعده نجاح، أن بقي الإنسان يعيش على ظهر الأرض حتى الآن، وذلك مرجعه حكمة الله تعالى التي أودعها عقل الإنسان، وبفضل العلم والتقنية والعقل المدبر، وما علينا إلا أن نردد مع الشاعر:
إلهي إهدنا واهد أقوامـنا وأيقظ عبـــادك من مرقـد
وجـــدد لنــا يــوم كنا يدا وكانــت يد الله فوق اليـد
والأمة اليوم عليها أن تبادر لطي ذكرياتها السود في غياهب مقابر الماضي، وتذهب لتبدأ خطا في سجل حياتها بصفحة جديدة كلها أمل ونور وصفاء، وأن لا تعود ناكسة الرأس تجر خطاها معتكفة في حفرة التواكل متمارضة، والهم يناوشها عليها أن تدخل حماما مسحورا تغتسل فيه، وتتطهر ليزول عن نفسها ما علق بها من أدران التخلف والانحطاط، لترافق الناس في مسيرتهم التقنية، لتصنع عهدا جديدا في إدارة دفة الأمور بيقظة متأججة، فرارا من الحياة البائسة الخانقة، والتجوال بحثا عن النماذج الناضجة لتنوير الطريق لشبابنا المتوثب المتحضر، لتحرير العقول من رجس التخلف، وهنا أقول: اجعلوا الشباب كالشمس نورها يدخل كل بيت حتى يكون منسجما مع الواجبات التي قد تسند إليه، ولتكن لنا في الأمم الحية أمثالا حية يصح أن نقتدي بها، في أي اختراع أو ابتكار أو اكتشاف، فهي أشياء لكل شعب ولكل الناس وهي بجماعها مظاهر الثقافة المعاصرة، المهم أن يكون هناك اهتمام بالشباب يساعد في شق طريق يربط بين الشرق والغرب؛ ولأنه هو بمثابة الأمل الباقي لصناعة المستقبل، والوضع لن يتغير منه شيء، إلا إذا سعى الشباب إلى التغيير، ذلك منطق السماء، وتلك سنة الكون.
وإذا كان المستقبل لا يوحي بقدر كبير من التفاؤل؛ لأن الأمة تلبس ما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر، فهي أمة مغلوبة تحسب السفسطة كمالا والقبح فيها جمالا فإلى متى نبقى منفصلين ومنصرفين عن حياة الناس وهمومهم ومصائرهم؟ إلى متى ونحن نشغل الشباب بالسماء بأكثر من انشغالهم بالأرض، وإلى متى وأمتنا تثير ضجيجا ولا تفرز طحنا؟ ناسية أو متناسية أنه حينما تلتقي السواعد المفتولة، والعقول العالمة الواعية، بالتقنية الحديثة يتحول ما هو ممكن إلى ما يجب أن يكون، وحينما تكون الأجيال الشابة الواعية، تبرز إرادة الإنسان بين دياجير الوهم والخيال، لتجعل مما هو كامن شيئا ظاهرا، ومما هو ظاهر شيئا له قيمة في الوجود والحياة، والأجيال الشابة جاء دورها في صراعها مع التقنية، من أجل حياة أفضل ومعيشة أكثر رغدا، وبما يكشف عن موقف الإنسان إزاء واقع الحياة ووقائعها، ونتيجة لذلك فالشباب هو الذي يحدد نوعية العلاقة مع الآخر بمفاهيم جديدة، وبالتالي يتعامل معه بما فيه مصلحة الطرفين، مساهمة منهما في خلق مشروع حضاري إنساني متجدد.
ومع كل التقدم التقني والعلمي في المجالات الحضرية الآن وغيرها من المعدات الحديثة المستخدمة، يظل الإنسان هو العنصر الحاسم، ليساهم في تحقيق الاحتياجات الحقيقية، لتوسيع تيار الخبرات حتى لا يشمت بشبابنا الشامتون ويقولون عنه إنه أعجز من أن يدير شؤون نفسه فأحرى بأمته والعالم من حوله، والأمة التي لا تحسن الدفاع عن شبابها أمة فاشلة لأنها تجعله لا يتمتع بالثقة التي تمكنه أن يؤدي مهمته بصدق وأمانة.
وبالله التوفيق
أرسل تعليق