الحياة الفكرية في عصر المرابطين.. (1)
من الحق أن يقال إن المرابطين هم اللذين مدُّوا حياة الأندلس السياسية وأبقوها في قبضة الإسلام زُهاء أربعة قرون أخرى، وهذا هو ما يغيظ المستشرق دُوزي ومن سلك سبيله في التحامل على الدولة المرابطية.
أما اضمحلال الأندلس معنويا فليس هناك من ينكر أن الازدهار الذي عرفته في أيام المرابطين، ثم الموحدين بعدهم يكاد يفوق ما كان لها منه في أيام الخلفاء وملوك الطوائف، وخاصة في ميادين العلوم والآداب؛ إن معظم أعلام الفلسفة والطب الأندلسيين هم ممن عاشوا في هذا العصر أو نبغوا بعده بقليل فأبو بكر بن بَاجَة المعروف بابن الصائغ الفيلسوف والطبيب والموسيقار هو ممن أظلَّته دولة المرابطين وخدم رجالها بعلمه وفنه، وأبو الوليد بن رشد وأبو بكر بن طفيل وأبناء زُهْر هم ممن نبغوا في أعقاب هذا العصر وانتشرت معارفهم في العصر الموحدي الذي يليه فالرُّشذية إذن، هذا المذهب الفلسفي الذي هو طابع الحياة الفكرية الأندلسية، إنما ظهرت في هذا العصر الذي يزعم صاحبنا أنه عصر اضمحلال الأندلس، وقل مثل ذلك أيضا في الميمونيّة، وهي فلسفة موسى بن ميمون التي نسجت على منوال الرُّشدية في التوفيق بين العقل والدين بالنسبة لليهودية وأعلام الفقه والتصوُّف مثل ابن رشد الكبير، وأبي بكر بن العربي وابن عربي الحاتمي وابن سبعين هم كذلك من رجال هذا العصر أو عصر الموحدين، وكبار اللغويين والنُّحاة والمفسرين والمقرئين فضلا عن مؤرخي الأدب، والشعراء والكتاب اللذين أنجبتهم الأندلس في حياتها الثانية بعد خضوعها لدولة المرابطين هم ممن لم يأتي عليهم العد ولا يتسع المقام حتى لذكر المشاهير منهم..
لقد كان أساس دعوة المرابطين العلمُ، وعليه قامت دولتهم وإن رحلة يحيى ابن إبراهيم الكدالي التي تمخَّضت عن دخول عبد الله بن ياسين إلى الصحراء لأعظمُ دليل على ذلك، وكانت نزعة عبد الله إلى علم الفقه والدين أقوى منها إلى أي علم آخر، بالطبع لأنه كان عالما دينيا، فغلب هذا الميل على الدولة، ومن ثم كان تقديمها للفقهاء واختصاصها لهم دون من عداهم من أرباب المعارف المتنوعة، برغم ما صار إليها من جيوش العلماء والفلاسفة من جراء فتح الأندلس وضمها إلى الإيالة المغربية، ولم يكن هؤلاء يطمعون في القرب من الدولة قرب حظوة على ما يقول المؤرخون إلى أن يتلبس أحدهن بلباس الفقهاء، وعلماء الدين كما فعل مالك بن وهيب؛ فرقي إلى منصب وزير لعلي بن يوسف[1] ولكن هذا لا يعني أن اضطهاداً فكرياً كان ينال غير هذا الصنف من العلماء أو أن حقوقهم كانت مضيعة؛ فإن غاية الأمر أن وظائف الدولة كانت من نصيب رجال الشريعة، وفيما عدا ذلك؛ فإن كل العلماء كانوا قائمين بنشاطهم الفكري لا يعترض سبيلهم معترض، وأي ضير في أن تجعل مقاليد الحكم بيد الفقهاء، وهم أحق الناس بها وأولى إذ كانوا حملة الشريعة التي هي قانون البلاد ودستورها المقدس..
يتبع في العدد المقبل..
————————————
1. تولى أمير المسلمين علي بن يوسف عرش المغرب بعد وفاة أبيه في سنة 500 وله من العمر 23 سنة وتوفي سنة 537
النبوغ المغربي في الأدب العربي تأليف عبد الله كنون، العدد 1-3 دار الثقافة، ج: الأول، ص: 65-69.
أرسل تعليق