الحياة الطيبة
يقول الله عز وجل تقدست أسماؤه: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ اَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُومِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [النحل، 97]؛ وقال جل شأنه: “وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ” [النحل، 96]؛ وقال جلت قدرته في السورة نفسها: “الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” [النحل، 32]..
فكلمة الحياة الطيبة هي العبارة التي يطلقها القرآن الكريم على المعيار الأرقى والأنموذج الأمثل لحياة الإنسان في أبعادها النفسية والفكرية والاجتماعية والعمرانية…
ولكن ما الحياة الطيبة؟ قال بعض المفسرين “إنها الرزق الحلال الطيب. وقيل هي عبادة الله مع أكل الحلال، وقيل القناعة؛ قال الواحدي: “قول من يقول الحياة الطيبة هي القناعة حسن مختار، لأنه لا يطيب عيش أحد في الدنيا إلا عيش القانع، وأما الحريص فإنه يكون أبدا في الكد والعناء..
وفي الآية معادلة شرطية محكمة وواضحة، إن حقق الإنسان شروطها ومقدماتها، تطامنت له الحياة الطيبة بكل دلائلها وتجلياتها. هذه المعادلة المجربة الظاهرة مبنية على طرفين:
الأول: الإيمان وإحسان العمل أو العمل الصالح؛ “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ اَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُومِنٌ”.
والثاني: الحياة الطيبة في جميع مناشط الدنيا وأمورها بالإضافة إلى الثواب الأخروي “فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
فالطرف الأول شرط في تحقيق الطرف الثاني.. ومن أهم مقومات الطرف الأول معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته؛ فإنه والله لا تطيب حياة أحد في الدنيا إلا بحياة القلب وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه. ولذلك كان ابن تيمية رحمه الله كثيرا ما يقول “إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة” وكان يردد في محبسه في القلعة “ المحبوس من حبس قلبه عن ربه تبارك وتعالى والمأسور من أسره هواه” وقال بعض العارفين “مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قالوا وما أطيب ما فيها؟ قال معرفة الله ومحبته والأنس به والشوق إلى لقائه“.
والعمل الصالح والإيمان هو الشرط الحاضن والبيئة الصالحة لقيام الحياة الطيبة بجميع تجلياتها وثمراتها، فالبلد الطيب الذي يقيم قيمه وقوانينه ومرافقه على احترام هذه الحياة هو الذي ينتج الأشياء والآثار والمخرجات بحسب طبيعته الغالبة “وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُث لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الاَيتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ” [الاَعراف، 57].
ومن أدعية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام “ربنا هب لنا من لدنك ذرية طيبة” ذرية طيبة تؤمن بقيم الحياة الطيبة وتمارس أدبياتها وشرائعها لتعيد إنتاج هذه الحياة في خاصة نفسها وفي مناشط الحياة الاجتماعية العامة… ومن أجلّ مصانع الحياة الطيبة في التاريخ الإنساني (الأسرة)؛ فهي الملاذ والنواة التأسيسية لانطلاق مشروع الحياة الطيبة، والأسرة تقوم على عنصرين مهمين:
أولهما العلاقة النَّسَبية المتفرعة أصلا عن عقد الزواج؛
والثاني هو الخُلُق باعتباره يضفي على هذه العلاقة سر الإنسانية وروحها، فالأسرة هي منشأ قيم الحياة الطيبة؛ من أمن وسلام وعدل وسكينة واحترام متبادل؛ وبمعنى آخر هي منشأ العلاقات الأخلاقية السامية بين أبناء المجتمع، بحيث يمكن القول لا حياة طيبة ولا علاقة إنسانية بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير أسرة ولذلك يقول جل وعلا: “أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اَجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ” [الجاثية، 21]. هل بيت البار المؤمن كبيت الفاجر؟ هل أسرة هذا كأسرة ذاك؟ أبدا لا يستوون “وَمَنْ اَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى” [طه، 122]. وفي الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال “من أعطي أربع خصال فقد أعطي خير الدنيا والآخرة وفاز بحظه منهما: ورع يعصمه عن محارم الله، وحسن خلق يعيش به في الناس، وحلم يدفع به جهل الجاهل، وزوجة صالحة تعينه على أمر الدنيا والآخرة”.
أرسل تعليق