الحركة العلمية في عصر المرينيين.. (2)
لقد كان السلطان أبو عنان ابن أبي الحسن في عصر المرينيين فقيها يناظر العلماء الجِلَّةَ، عارفا بالمنطق وأصول الدين، وله حظٌّ صالح من علمي العربية والحساب، وكان حافظا للقرآن عارفا بناسخه ومنسوخه، حافظاً للحديث عارفا برجاله، فصيح القلم، كاتبا بليغا، حسن التوقيع، شاعراً مُجيداً له. مُقطَّعات شعرية حسنة تورَد في محلها، ومثل ذلك يقال في السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم بن أبي الحسن وولده أبي فارس عبد العزيز، فلا غرو أن تنشَطَ الحركة العلمية في هذا العصر، وهي تحظى برعاية ملوك من هذا القبيل، يُمثلون النشاط الفكري في جميع ميادينه..
ولعل القارئ لا يزال يذكر أننا قسَّمنا العلوم هناك على ثلاثة أقسام، فالعلوم الشرعية تليها العلوم الأدبية ثم العلوم الكونية: أما العلوم الشرعية، وهي الفقه والحديث والتفسير وتوابعها فقد نُوحِيَ فيها منحى التبسُّط والتفريع. وإن يكن شيء من ذلك قد وقع في العصر قبله؛ إلا أنه في هذا العصر قد زاد الأمر زيادة ظاهرة، وبلغ التوسع في ذلك منتهاه. يدلنا على ذلك كثرة الفقهاء الذين نبغوا في هذا العصر، والتآليف العظيمة التي وُضعت في فروع الفقه. ونحسب أن ذلك كان نتيجة الضغط على رجال هذه العلوم في عصر الموحدين والتحرُّش بهم وإن الضغط يعقُبُه الانفجار كما تعلم، فكان هذا هو ردُّ الفعل على تلك الحركة الاستفزازية المنافية لاستقلال الناس في أذواقهم ومشاربهم، وحُرِّيتهم في أعمالهم ومآتيهم وإذا صحَّ اعتبار هذا السبب هو الباعث على نشاط هذه العلوم من جديد ورواجها هذا الرَّواج كله، فلا يصحُّ اعتباره سبب ما طرأ عليها من التضخُّم والنماء، إلا من طريق غير مباشر، وهو ما أشرنا إليه من كثرة المشتغلين بها، فكثر البحث والتعمق في البحث، فكثر الاستنباط والتفريع في الاستنباط، فكثُرتْ مسائل هذه العلوم كثرة لا مزيد عليها. أضف إلى ذلك أن الطلبة في هذا العصر، كانوا لا يستنكفون من الطلب ولو بعد بلوغ المرتبة العليا في التحصيل، فقد كانت هناك طبقةٌ منهم لا يمكن أن يقاس بها أكابر علمائنا الآن، لا تفتُر عن الطلب وهي بعد من كبار العلماء. واعتبر بما حُكي عن الكانوني، وكان من أئمة الفقه الذين لا يُشقُّ لهم غبار أنه كان يدرس المدونة بالقرويين، ويأتي عليها بأبحاثٍ وتعاليق وشروح مستجادة، فكان يجلس إليه أكثر من مائة معمم، وهم حفاظ المدونة إذ ذاك وهذا حافزٌ قوي لما ذكرناه كان نتيجة أن اتسعت دائرة هذه العلوم أتساعا عظيما.
ودون هذه العوامل المختلفة التي أدت إلى نشاط علم الفروع ذلك النشاط العظيم؛ فإن هناك عاملا آخر لا يقلُّ عنها شأنا في هذا الصدد وهو ما كان لطلبة العلم المذكور في هذا العصر من سمو المنزلة عند الخاصة والعامة بسبب وقوفهم مع الحق وسيرهم على الجادة، فكان إن عظمت سلطتهم على النفوس وقوي نفوذهم في رجال الدولة. فالفتوى والقضاء، ومناصِبُ الشرع كلها كانت مستقلة عن التدخُّل الحكومي أو التعرض لها من الرؤساء وكلمة القاضي كانت نافذة في أكبر كبير، كأصغر صغير وحسبُك أنه لما وقع الشجار بين القاضي أبي الحسن الصغير، والوزير ابن يعقوب الوطَّاسي بسبب تعقب هذا الأخير لحكم القاضي لم يكن من السلطان إلا أن سخط على وزير وعزله شرَّ عزل.
وهذه المكانة التي كانت لرجال الدين عند الشعب، هي التي جعلت العلاَّمة عبد العزيز الورياغلي يثور بآخر سلاطين بني مرين، ويقلب الدولة المرينيَّة رأسا على عقب، لما سوِّل للسلطان أن يولي على فاس رجلا يهوديا يسوم أهلها سواء العذاب. أرأيت إلى أي حدٍ بلغ نفوذ الفقهاء في الأمة فلم لا ينصرفون لخدمة علمهم الذي به رقوا هذه الدرجة من المحبوبيَّة..
يتبع في العدد المقبل…
النبوغ المغربي في الأدب العربي تأليف عبد الله كنون، العدد 1-3 دار الثقافة، ج: الأول، ص: 177- 190.
أرسل تعليق