الثقة بالنفس
الحياة مملوءة بالمصاعب، غنية بالمتاعب الحياتية، وذلك هو سر حلاوتها، وموجب شدة الرغبة فيها. فلو جلس الإنسان وفكر قليلا في المطالب التي لا بد له من الحصول عليها، وفي الوسائل التي توصله إليها، وفي الصعوبات التي تعترض طريقه، وأخذ يُعدد ما يجب عليه أن يقوم به، وما يجب أن يحذره ويتلقاه من نكبات وكوارث تقوم في وجهه. لو فعل ذلك وقابل ذلك مع قوته وإمكانياته لأعتقد أنه منهزم في الجولة الأولى؛ لأنه يُخيَّل إليه أنه لا يتوفر على جميع ما يتطلبه الدخول في معركة الحياة، وضمان الانتصار فيها.
ولكنه رغم ذلك كله يشعر بدافع باطني مهيب يطلب منه الإقدام على العمل، والمغامرة بنفسه فيه، وتكون النتيجة أن جميع الصعوبات، وجميع العقبات تتبخر، ويصل إلى النتيجة التي توخاها من قبل، والتي كان يعتقد من قبل أنها من قبيل المستحيل.
هذا التيار الداخلي العجيب الذي يقلب الأوضاع، ويحقق المستحيل هو الثقة بالنفس والإيمان بالنجاح، وهي التي توفرت في جميع اللذين أقدموا على عظائم الأمور وقلبوا الوضعيات وثمة أناس آخرون يترددون كثيرا ويتهيبون الإقدام على أمر مهما كان صغيرا، ولا يستطيعون أن يتحركوا وتضيع أوقاتهم وجميع طاقاتهم في التردد بين التقدم، والإحجام وهؤلاء قد فقدوما الإيمان بأنفسهم والثقة فيها ففقدوا كل عناصر النجاح.
إذن فالثقة بالنفس والإيمان بقدرتها على عظائم الأمور هي القوة التي يهبها الله لبعض الناس فيستطيعوا تبديل الوضعيات وتحويلها من عدم إلى وجود ومن ركود إلى حركة وحياة. كما أنه من الواضح أن الإسلام يعمل بشتى الوسائل على خلق هذا الخلق في المؤمنـ، وتنميته وتقويته وعقيدته نفسها بما فيها من إيمان بالله كقوة عليا في الوجود تقلب الأوضاع، وتخرج من العدم إلى الوجود، وكذلك تشريعاته التي تدفع المؤمن إلى أن يغامر في نشر هذه العقيدة والدعوة لها وخدمتها في جميع أنحاء المعمور ذلك أن الإنسان إذا استطاع أن يتغلب على حاجاته البشرية الضرورية ويتحرر من الخضوع الأعمى الدائم لها وينظمها تنظيما يعاكس عاداته التي خضع إليها منذ عرف الحياة، ويضحى بها في سبيل مثل أعلى ورغبة في الحصول على جزء معنوي؛ آجل كل ذلك يجعل المؤمن يتوفر على نفسية قوية تمضي قدما في تحقيق أهدافها تخدم الحق ولا تبالي بالعاقبة وتنشر الفضيلة ولا تعبأ بالآلام التي تتعرض لها. لذلك تحولت الأمة العربية من أمة عاجزة ضعيفة محتقرة قابعة قبوع الذليل في جزيرتها إلى أمة جبارة مرهوبة الجانب استطاعت أن تنشر نفوذها في المعمور..
وخذ إليك تاريخ الأمة الإسلامية الحديث وانظر كيف وقعت في امتحانٍ قاسٍ لم ترى لها مثيلا في تاريخها الطويل، وكيف تداعت عليها أمم الأرض القوية المنيعة المجهزة بكل وسائل الفتك المادي والمعنوي حتى ظن الظنون.
وقد برهنت الأحداث على أن الأمة الإسلامية لا تزال تتوفر على عناصر من القوة خالدة صالحة للبقاء متوافرة الجدة لم تزدها المحن إلا رسوخا وصمودا، ولم تنل منها نكبات الزمن شيئا، وهاهي ذي الأمم الإسلامية تتحفز للوثبة من جديد وتستعد كي تؤدي نفس الدور الذي آدته في التاريخ وتقود زمام الحضارة وتتزعم موكب الأمم وكل ذلك نتيجة للمبادئ التي بتها الإسلام وللأخلاق الفاضلة التي غرسها في نفوس المسلمين وللتربية الكاملة التي ربا بها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وانتقلت منهم إلى من بعدهم من المؤمنين.
دعوة القرآن، ص: 73-77 الطبعة الأولى 1966م، مطبعة الرسالة الرباط..
أرسل تعليق