التربية العقلية في الإســــلام.. (6)
[مفاهيم التربية]
1. مفهوم التربية عند الغربيين
ويجدر بي في هذا الإطار الاقتصار على مفهوم التربية، عند كل من أصحاب النزعة الفردية، وأصحاب النزعة الجماعية، نظرا لوزنهما وتأثيرهما في الساحة العالمية.
أ. مفهوم التربية انطلاقا من منظور النزعة الفردية: تتخذ التربية في المعسكر الرأسمالي مفهوما خاصا، ينطلق من النظام والفكر السائدين. فالرأسمالية نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي ظهر بالتحديد في انجلترا، وينطلق من مبدإ: “الحرية والعمل” –دعه يعمل بحرية- “ويقوم على أساس فردية الإنسان، فتوسع له في حدود فرديته، وتترك له حرية التصرف في كثير من الأمر حتى يصل إلى حد إيذاء نفسه وإيذاء الآخرين، فلا تحجر على نشاطه الزائد عن الحد، ولا توقفه عند حد معقول. يطلق لنفسه عنان الشهوات والأهواء ويحطم الأخلاق والتقاليد، ولا يعترف بأحد في توجيهه وضبط تصرفاته، ويحول أمواله إلى أداة لاستغلال الآخرين وامتصاص جهدهم ودمائهم وتحويلها إلى ترف فاجر، ومتاع حسي غليظ، ويفسد سياسة الحكم وسياسة المجتمع، ويفسد تصور الناس للحياة“[1].
فالفرد هو المالك الوحيد لما يكتسب، وأحقيته أكثر من غيره في الحرية والتصرف في كل شيء، كما أن من حقه احتكار وسائل الإنتاج لما فيه منفعته ومصلحته الشخصية بالدرجة الأولى، بمعنى أن الأثرة للفرد هي أساس الرأسمالية وعنوان فلسفتها، فالفرد فوق الجماعة. كما أن المجتمع يضحي بالجماعة من أجل الفرد وخدمته: “فالغاية تبرر الوسيلة” وانطلاقا من هذا، انتشر مفهوم خاص للتربية، يلاءم طبيعة الفكر السائد، وهو اعتبار التربية وسيلة لتكوين الإنسان الحر القادر على تحقيق كل رغباته، ولو على حساب الآخرين. يقول فرويد: “فالدافع الجنسي ودافع العدوان كلاهما يدفع الإنسان إلى إرضاء رغباته بطريقة أنانية“.
ونلاحظ من خلال هذا النص، الهالة والأهمية التي يعطيها “فرويد” للجانب الجنسي، وما العلاقة التي تجمع الفرد بالمجتمع إلا صراع مستمر، وفي هذا يقول: “إن الإنسان وحش كاسر يحاول المجتمع كبح جماحه”، ويقول أيضا: “… لكن ما تهدف إليه الحضارة من تنشئة: كبح جماح الإنسان، وقمع رغباته، مما يتعارض مع طبيعته، ومن ثم يبقى الإنسان في صراع مع الحضارة والمجتمع، وبذلك يفقد السعادة التي يمكن أن يحصل عليها لو كان سلوكه تلقائيا ولا يكفه أحد“[2].
وهكذا، فإن التربية في المجتمعات الرأسمالية يكتنفها نوع من الفوضوية والحرية الزائدة، الغير معقولة، حتى تصل إلى مستوى العفوية في كل ميادينها من مدرسة وأسرة ومجتمع، فهي تسعى إلى “إيجاد المواطن الفرد المتمسك بحريته وقدراته، المغامر في سبيل الربح والثراء، والساعي من أجل النجاح لشخصه وإنتاجه الوطني، والشاعر بالولاء لوطن يحقق له هذه الظروف“[3].
ب. مفهوم التربية انطلاقا من منظور النزعة الجماعية: تقوم الفلسفة الاشتراكية ذات النزعة الجماعية على “أساس جماعية الإنسان، فتوسع في دائرة الجماعة –أو في الحقيقة الدولة- وتحجر على كل نشاط للأفراد –اللهم إلا نشاطهم الحسي الغليظ فتتركه لهم مباحا للتنفيس عن الطاقة المكبوتة- فتمنع اشتراك الناس الفعلي في سياسة الحكم وسياسة المجتمع، وتفرض عليهم النظم والترتيبات بحجة أنها أعرف منهم بمصالحهم، فتعين لهم أعمالهم وأماكن إقامتهم، كما تعين لهم أفكارهم ومشاعرهم وطريقة إحساسهم بالأمر، ولا تترك لهم سبيلا للاختيار وتحكمهم بالحديد والنار والتجسس، وتعتبر كل نصيحة للدولة أو القائم عليها خيانة تعاقب عليها “بالتطهير” لأنها نزعة فردية آثمة، موجهة ضد كيان الجماعة المقدس من فرد لا قداسة له في ذاته ولا كيان”[4].
وانطلاقا من هذه الفلسفة “فإن نظام التربية يوجه بأكمله إلى تكوين العقلية الشيوعية في مختلف الميادين، أي تلقين تعاليم ماركس وإنجلز ولينين بقضها وقضيضها عن طبيعة الكون وقوانين التطور الاجتماعي، والانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية…”[5].
وتتفق المدرسة الاشتراكية مع نظيرتها الرأسمالية في النظر إلى طبيعة الإنسان على أنه مادة وغرائز، حيث يقول محمد باقر الصدر –رحمه الله- في كتابه “اقتصادنا”: “الإنسان الأوروبي ينظر إلى الأرض دائما لا إلى السماء… كما أن انقطاع الصلة الحقيقية للإنسان الأوروبي بالله، ونظرته إلى الأرض بدلا من نظرته إلى السماء انتزعت ذهنه الروحانية العليا، وعلى هذه الأرضية استطاع الاقتصاد أن يبدأ حركته ويحقق نموه ويسجل مكاسبه“[6].
وبذلك يغض الفكر الاشتراكي النظر عن جوانب الإنسان المتعددة، ويهتم فقط بجانب متطلباته المادية، كما أن هذا النظام يضحي بالفرد ويدوسه في سبيل الجماعة أي الدولة، وفي هذا يقول “لينين” “إنه –الفرد- مجرد ظاهرة جزئية تافهة لا شأن لها في نظام كلي هائل، وهو الدولة”[7]، وينظر إلى الإنسان كظاهرة ثانوية لا قيمة لها إلا انطلاقا من العمل الذي يزوده بإنسانيته، يقول فريديريك إنجلز: “إن العمل هو الذي أدى إلى تطور القردة، وحولها إلى كائنات بشرية“[8]، والواقع المادي يزوده بوعيه حيث يقول كارل ماركس: “إن أسلوب الإنتاج في الحياة المادية يقرر الصفة العامة التي تطبع عمليات الحياة الاجتماعية والسياسية والروحية، ليس وعي الناس هو الذي يقرر وجودهم، على العكس إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يقرر وعيهم“[9].
من هنا سعت التربية الاشتراكية إلى غرس العقيدة الشيوعية والمبادئ والمفاهيم الاشتراكية في ذهن الناشئة، وإلى تغليب مصلحة الجماعة –الدولة- على مصلحة الفرد، وتوجيه الأفراد إلى نبذ الأنانية، والنوازع الفردية، وإعلاء مصلحة الأغلبية التي تتمثل في الطبقة الكادحة، التي تخدم المجتمع وتنتج ثروته..
يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى..
————————–
1. سيد قطب : منهج التربية الإسلامية، ج: 1، ص: 162 – ط. 8 ، دار الشروق، بيروت
2. نقلا عن مجلة العربي – فبراير 1981.
3. ذ عبد المجيد عبد الرحيم، قواعد التربية والتدريس في الحضانة ورياض الأطفال، ص: 13.
4. محمد قطب، منهج التربية الإسلامية– ج: 1، ص: 162-163.
5. عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، ص: 295.
6. محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ص: 300.
7. نقلا عن مجلة العربي – فبراير 1981- ذ. خالد أحمد العزيز ومجموعة من الطلبة الأساتذة- موقف التربية الإسلامية من التقاليد، بحث تربوي في شعبة التربية الإسلامية، تحت إشراف ذ. بوعزة الشبوكي -المركز التربوي الجهوي– البرج مكناس- السنة الدراسية 1409-1989، ص: 9-10.
8. المرجع نفسه، ص: 9-10.
9. المرجع نفسه، ص: 9-10.
أرسل تعليق