التربية العقلية في الإســــلام.. (4)
[التربية الإسـلامية، أهدافهـا وميادينهـا]
1. مفهـوم التربية في اللغة
المعنى اللغوي للتربية: إذا رجعنا إلى معاجم اللغة العربية، وجدنا لكلمة التربية أصولا لغوية ثلاثة:
الأصـل الأول: ربا يربو، بمعنى زاد ونما، وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: “وما ءَاتيتم من ربا لتربو في أموال الناس فلا يربو عند الله” [الروم، 38]، ومنه قوله تعالى أيضا: “يمحق الله الربا ويربي الصدقات” [البقرة، 275].
الأصل الثاني: ربا يربي، على وزن : خفي يخفي، ومعناه: نشأ وترعرع، وعليه قول ابن الأعرابي:
فمـن يك سائـلا عني فإنـي بمكـة منزلـي وبــــهـا ربيـت
الأصل الثالث: رب يرب، بوزن: مد يمد، بمعنى: أصلحه وتولى أمره، وساسه وقام عليه ورعاه. ومن هذا المعنى قول حسان بن ثابت كما أورده ابن منظور في لسان العرب:
ولأنت أحسـن إذا برزت لنـا يوم الخـروج بسـاحة القصر
مـن درة بيـــضـاء صــافــية ممــــا تربب حــائر البحــــر
وقال: يعني الدرة التي يريبها في الصدف، وبين بأن معنى: ترتب حائر البحر، أي ما ترببه، أي رباه مجتمع الماء في البحر. قال: ورببت الأمر أربه ربا وربابا: أصلحته ومتنته.
وترد التربية بمعنى: التغذية، نقول: ربى الوالد ابنه بمعنى غذاه وجعله ينمو، ونقول: ربيت بمعنى: نشأت[1].
المطلب الثاني: مفهوم التربية في الاصطلاح
وقد اشتق بعض الباحثين من هذه الأصول اللغوية السابقة، تعريفا للتربية. فقال الإمام البيضاوي: أصل الرب بمعنى التربية وهي: تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثم وصف به تعالى للمبالغة، فتربية الناشئ على هذا الأصل هي العمل على إيصال الناشئ إلى كماله شيئا فشيئا”[2].
وفي كتاب مفردات الأصفهاني: “الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام“.
وقد استنبط الأستاذ الباني مما سبق، أن التربية تتكون من العناصر التالية:
أولها: المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها؛
ثانيها: تنمية مواهبه واستعداداته كلها، وهي كثيرة ومتنوعة؛
ثالثها: توجيه هذه الفطرة، وهذه المواهب كلها نحو صلاحها اللائق بها؛
رابعها: التدرج في هذه العملية، وهو ما يشير إليه البيضاوي بقوله: “شيئا فشيئا“، والراغب الأصفهاني بقوله: “…حالا فحالا…
ثم يستخلص من هذه العناصر نتائج أساسية في فهم التربية:
الأولى: أن التربية عملية هادفة لها أغراضها وأهدافها وغاياتها؛
الثانية: أن المربي الحق على الإطلاق هو الله الخالق، خالق الفطرة وواهب المواهب، وهو الذي سن سننا لنموها وتدرجها وتفاعلها، كما أنه شرع شرعا، ووضع منهاجا لتحقيق كمالها وصلاحها وسعادتها؛
الثالثة: أن التربية تقتضي خططا متدرجة تسير فيها الأعمال التربوية والتعليمية وفق ترتيب منظم صاعد، ينتقل من الناشئ من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة؛
الرابعة: أن عمل المربي والمعلم، تال وتابع لخلق الله وإيجاده، كما أنه تابع لشرع الله ودينه وأحكامه[3]..
وهذا التحليل لمعنى التربية[4] ونتائجها، يؤدي بنا إلى معنى التربية في الشرع والدين؛ لأن التربية تستمد جذورها وأصولها ومبادئها وأسسها وفلسفتها منهم. فطبيعة النفس الإنسانية طبيعة متدينة، والإنسان في الحقيقة حيوان متدين.
يتبع في العدد المقبل…
————————-
1. التنشئة ولتغذية ليست عملية مادية فحسب –أي مقتصرة على الطعام والشراب- ولكنها عملية متكاملة تشمل جميع جوانب شخصية الناشئ روحيا ونفسيا وخلقيا، واجتماعيا وجسميا وعقليا، ولذلك فإن من أهم معانيها: التهذيب والرفع والسمو والترقية والتزكية للروح والعقل والجسم، د. عبد الحميد الصيد الزنتاني: أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية، ص: 23.
2. الإمام عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج: 1- ص: 7.
3. د. علي أحمد مذكور، منهج التربية الإسلامية في التصور الإسلامي، ص: 266-267، دار النهضة العربية – بيروت.
4. نشير بإيجاز إلى لتعريفات العامة التي وضعها الفلاسفة والمفكرون لمعنى التربية فيما يلي:
1. يقول أفلاطون: “إن التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال والكمال“.
2. ويرى أرسطو أن “الغرض من التربية هو إعداد العقل لكسب العلم“.
3. ويعرف جون سيمون الفيلسوف الفرنسي التربية بقوله: “إن التربية هي الطريقة التي يكون بها العقل عقلا آخر”.
4. يقول جون ميلتون المربي والشاعر الإنجليزي: “إن التربية الكاملة هي التي تجعل الإنسان صالحا لأداء أي عمل، عاما كان أو خاصا، بدقة وأمانة ومهارة وفي السلم والحرب“.
5. ويقول بستالوتزي أحد المربين السويسريين: “إن التربية هي تنمية كل قوى الطفل تنمية ملائمة“.
6. ويرى كانت الفيلسوف الألماني: “أن التربية تصل بالإنسان إلى الكمال الممكن“.
7. ويعرفها جيمس ميل العالم الإنجليزي بأنها: “إعداد الفرد ليسعد نفسه أولا، وغيره ثانيا“.
8. ويرى الإمام الغزالي رحمه الله في آرائه التربوية على أن الهدف الأسمى للتربية: “هو التقرب لله تعالى، والاستعداد للحياة الأخروية، ولذلك دعا إلى تربية الصبيان تربية دينية وخلقية قوامها التقشف والزهد في الملذات حتى البريئة منها“.
ويرى ابن سينا أن التربية: “وسيلة إعداد الناشئ للدين والدنيا في آن واحد، وتكوينه عقليا وخلقيا، وجعله قادرا على اكتساب صناعة تناسب ميوله وطبيعته وتمكنه من كسب عيشه“.
10. أما ابن خلدون فقد أكد في آرائه التربوية على: “ضرورة العناية بتنمية عقل المتعلم ومراعاة استعداداته العقلية“.
11. ويرى أحد المهتمين بالحقل التربوي، د. عبد الحميد الصيد الزنتاني أن: “التربية عملية تشكيل الشخصية السوية المتكاملة في جميع جوانبها، روحيا وعقليا ووجدانيا وخلقيا واجتماعيا وجسميا، والقادرة على التكيف مع البيئة الاجتماعية والطبيعية التي تعيش فيها“.
المراجع: عبد الحميد الصيد الزنتاني، أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية، ص: 23-24-25/ الدار العربية للكتاب – ليبيا.
عبد الرحمن عميرة، منهج القرآن في تربية الرجال، ص: 3-4 / ط. 1 دار الجيل للنشر والطباعة والتوزيع 1991.
أرسل تعليق