التربية العقلية في الإســــلام.. (3)
[التربية الإسلامية ودورها في تنمية العقل]
إن الحلقة الأولى في التربية الإسلامية هي حلقة إعداد المربي والمعلم الأول صلى الله عليه وسلم، وهي أهم هذه الحلقات وأروعها. فقد كان غار حراء هو المدرسة الأولى في الإسلام يقضي فيها النبي صلى الله عليه وسلم جل أوقاته، ينقطع فيها للعبادة، قصد تتوثق صلته بربه، حتى صار من المخلصين له سبحانه، وصار أهلا لحمل الرسالة والدعوة وتحمل الأمانة وتبعاتها.
إلى جانب دار الأرقم بن أبي الأرقم، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجمع صحابته بعيدا عن أعين الكفار، وفي غفلة منهم، ليعدهم بحمل ما ينتظرهم من تبعات وأعباء، كانت كثيرة كما يدل على ذلك التاريخ الإسلامي، الذي يتحدث عن المرحلة الأولى للجهر بالدعوة، قبل الإذن بالهجرة إلى المدينة، والتي امتدت إلى ثلاثة عشر عاما، كانت طويلة وثقيلة، ولم يكن يقدر عليها إلا من تتلمذ على يد خير الخلق، والمربي والمعلم الأول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
والذين زاروا غار حراء من المعاصرين، يصفون صعوبة الرحلة إليه، ومشقتها ومخاطرها، كما يصفون صعوبة الحياة فيه بعيدا عن الناس والضوضاء وصخب الحياة. وبجانب هاتين الصعوبتين وما شابههما من صعوبات في نظرهم، ربما هانت صعوبات مطاردته وملاحقته، ومناصبته العداء في مكة بعد أن حمل الأمانة.
وكأنما كان غار حراء تدريبا عمليا ونفسيا وعقليا وجسميا على تحمل المشاق، لم يكن ليصلح له إلا من أعد ليقود مسيرة الإنسانية في المجتمع المكي، ولم يكن يصلح له أو يقدر عليه كل سائر في هذه المسيرة.
وفي المدرسة الأولى –غار حراء- كانت التربية لفرد، ولكنها كانت في حقيقة أمرها تحقيقا لأهداف أمة كاملة، احتواها القلب الكبير لهذا الفرد. ومع دار الأرقم بن أبي الأرقم[1] بدأت تربية الأمة. فكما كان غار حراء مناسبا لتربية الفرد دون غيره، كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم هي مناسبة لتربية أمة محدودة العدد، تتم تربيتها في سرية تامة[2]، بعيدا عن أعين الأرصاد والجواسيس، وعندما زاد عدد أفراد هذه الأمة، وصارت الدعوة الإسلامية علانية، صار الجامع أو المسجد هو المكان المناسب دون غيره لهذه التربية الواسعة والشاملة في مفهومها. ولازال الجامع أو المسجد الذي لا يعدو أن يكون بشكل أو بآخر هو دار الأرقم، وغار حراء موسعا، هو المؤسسة التربوية والتعليمية الأساسية في الإسلام[3].
ولم يكن الجامع ليتمكن من هذه الاستمرارية التي امتدت طوال أربعة عشر قرنا، واقتحمت قرنها الخامس عشر، دون أن يكون من المرونة بطبيعته، بحيث يكون قادرا على الاستجابة لمتغيرات كل عصر، وتبدو هذه المرونة التي تحلى بها المسجد فيما درس فيه من مناهج، بدأت بالقرآن الكريم ثم ضمت الحديث النبوي الشريف، ثم ضمت ما دار حولهما من علوم، ثم اتسعت أكثر فأكثر فشملت الفلسفة والعلوم والرياضيات ومختلف شؤون المجتمع.
ولقد أدى تطور الحياة في المجتمع الإسلامي، إلى ظهور مؤسسات تعليمية كثيرة كالكتاب، ودار الحكمة، والبيمارستان، والدور والقصور، ولمكتبات والمعاهد وغيرها، ولكنها لم تكن منافسا للمسجد يوما، بل كانت متشعبة عنه، أي أن المؤسسات التربوية الأخرى في الإسلام، قد ولدت في حضانة المسجد، ولم تنشأ بمعزل عنه، وهذا هو الذي جعلها مؤسسات دينية إسلامية بالرغم من أمور الدنيا التي يدور حولها نشاطها، وهو أمر يتسق مع: “الفكرة الإسلامية عن العلم[4]، التي تدخل شؤون الدنيا في الدين، وتعتبر الدنيا هي النشاط الحيوي للدين”[5].
وتلك معجزة الإسلام وسر خلوده، رغم كل المؤامرات والتحديات التي حاولت إطفاء نوره، وإيقاف مسيرته، ذلك أن السماء والأرض معا –كما يقول الدكتور عبد الغني عبود- : قد شكلتا وحدة واحدة في الإسلام، بعد أن كانت السماء –قبله- بعيدة عن الأرض لا تمد إليها اليد إلا عند الضرورة، ولأول مرة في تاريخ الفكر الديني التحم العقل البشري بالعقل الكوني[6]، بعد أن كان العقل الكوني قبل الإسلام يرتب كل الأمور، وعلى العقل البشري أن يخضع نفسه، رضي أم لم يرض، لترتيبات العقل الكوني، بل إن من مصلحته أن يتعطل عن العمل حتى يستطيع استيعاب تصرفات العقل الكوني كاملة[7].
والفكرة التي كانت شائعة قبل لإسلام هي أن الإيمان والعقل لا يلتقيان، وأن الفكر نقيض الإيمان، فلما جاء الإسلام جعل الإيمان به غير مناقض للعقل والفكر، بل إنه جعل الفكر هو السبيل الوحيد للإيمان، ومن ثم رفع من شأن العلماء وجعلهم ورثة الأنبياء على نحو ما هو متواتر في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف، بل إن القرآن، حينما ينعى على الكفار، إنما ينعى عليه إلغاءهم لنعمة العقل، التي انعم الله بها على الإنسان، لا ليعطلها ولكن ليصل بها إلى بديع صنع هذا العقل الكوني “الله سبحانه”: “قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد ءَاباؤنا فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين” [الاَعراف، 69]، “وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءَاباءنا أولو كان ءَاباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون” [البقرة، 169].
وبهذه الروح الإسلامية نشأت التربية الإسلامية قبل أن تكون هناك دعوة إلى الإسلام، ثم تطورت مع تطور مراحل هذه الدعوة، وسايرتها خطوة بخطوة حتى اليوم.
فما مفهوم هذه التربية؟ وما هي أهدافها؟ وما هي ميادينها؟ ذلك ما سنحاول معرفته بالدرس والتحليل من خلال هذا الفصل.
يتبع في العدد المقبل….
—————————————–
1. دار الأرقم بن أبي الأرقم المعروفة لآن بدار الخزران عند الصفا، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم ويعبدون الله تعالى فيها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين.
2. استمر الرسول صلى الله عليه وسلم مستخفيا هو وأصحابه في دار الأرقم إلى أن ظهرت الدعوة وأعلى صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة أي قبل مدة استخفائه أربع سنين وأعلن في الخامسة، وقيل أقاموا بتلك الديار شهرا وهم تسعة وثلاثون: السيرة الحلبية لعلي برهان الدين الحلبي الشافعي، ص. 283.
3. الدكتور عبد الجواد سيد بكر: فلسفة التربية الإسلامية في الحديث الشريف – دار الفكر العربي، ص: 3738 بتصرف.
4. كان الرسول صلى الله عليه وسلم صورة حية لهذا العلم، كما يراه الإسلام، فكان يبلغ ما ينزل عليه من شؤون الوحي أول بأول، ويشرحه ويفسره في الحديث الشريف، ويجوله إلى واقع في سنته المطهرة، كما كان في شؤون الدنيا، يتعلم ما لا يعلم، ويعلم ما لا يعلم، مما يعلم، وليست قصة تأبير النخل هنا بالمجهولة، وخلاصتها ما قاله عليه الصلاة والسلام لمن كانوا يؤبرونه: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم“، فكانت فتحا لكل الأبواب في طريق العلم الدنيوي الخالص.
5. د. عبد الجواد سيد بكر، فلسفة التربية الإسلامية في الحديث الشريف، ص: 38 – دار الفكر العربي.
6. هو التعبير الذي يعبر به العلم الحديث، عن الله سبحانه وتعالى في المفهوم الإسلامي، وعلى أي إله في المفاهيم الأخرى غير الإسلامية.
7. الدكتور عبد الغني عبود، في تقديمه لكتاب فلسفة التربية الإسلامية في الحديث الشريف، ص: 18 بتصرف.
أرسل تعليق