التربية العقلية في الإســــلام..(25)
أهم الضوابط التي تكفل للعقل حسن الفهم في السنة
لما كان العقل هو أساس المعرفة البشرية، ووعاؤها ووسيلة إدراكها وتنظيمها وترتيبها، ويدونه لا يمكن أن تحصل المعرفة ولا أن يقوم العلم، ولا أن تتم عملية التعلم والتعليم؛ فإن السنة النبوية ترى انه لابد من مراعاة عدة شروط تكفل للعقل حسن الإدراك والفهم والمعرفة، وتحصيل العلوم الصحيحة النافعة، نذكر أهمها فيما يلي:
أولا: تحرير العقل: عملت السنة النبوية على تحرير العقل من قيود المؤثرات السابقة والعادات الفاسدة، ومن أغلال التقليد الأعمى المتوارث والانسياق وراء الآخرين، دون وعي أو تمييز، وذلك حتى يمكنه أن ينطلق في البحث المنهجي النقدي السليم في تحصيل المعارف والعلوم وكسب الخبرات والتجارب الصحيحة، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا“[1].
ثانيا: استثمار العقل في الإدراك السليم: ومن الضوابط التي تكفل للعقل حسن الفهم، الحرص على استثماره في الإدراك السليم والاقتناع المنطقي، ودعم الإيمان بالحجة والدليل والبرهان، “وتجنب إقحام العقل في ميادين ومناطق لا تؤهله قدراته على اختراقها، وقضايا لا يستطيع الحكم فيها، هذا الجانب هو عالم الغيب الذي صوره الحق تبارك وتعالى في القرآن وأمدنا بحقيقته عن طريق الوحي، وأمرنا أن نؤمن به، فالعقل يقبله ولكنه لا يستطيع وحده أن يصل إلى الحكم فيه؛ لأن أداته ليست مؤهلة لهذا الغرض، فالعقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفا للغطاء في جميع المعضلات“[2]، يقول الله تعالى: “أفلا يتدبرون القرءَان أم على قلوب أقفالها” [ محمد، 25] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره“[3].
وبهذا تعمل السنة النبوية على عدم إقحام العقل في ما لا يدركه، ولا يحيط به من أمور الغيب، حتى لا يضيع جهد الإنسان ووقته سدى.
ثالثا: تسخير العقل في طلب العلوم: إن نمو العقل لا يكون إلا بالعلم، ومطالبة الإسلام بالتعقل تكون بطلب العلم، وتربية العقل تكتمل بالتعرف على العلم في كل مكان على الأرض، والاستفادة منه، ويمكن القول: “إن العلم في الإسلام، وكما بين القرآن الكريم والحديث الشريف، هو جملة المعارف التي يدركها الإنسان بالنظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق من شيء… ويشمل الخلق هنا كل موجود في هذا الكون ذي حياة أو غير ذي حياة“[4]، والعلم الإسلامي “غذاء العقل، وهو ليس علم الدين وحده، وإنما علم الدين والدنيا على السواء، وهو واسطة لمعرفة الخالق كما أنه واسطة لمعرفة الأشياء الطبيعية واستخدامها في مصلحة الإنسان“[5]. ويستمد العلم الإسلامي أصوله من ذات الله وصفاته: “فهو العلم بحقيقة الوجود وبحقيقة الإنسان“[6]، والعلم لا يقيده في الإسلام إلا أن يكون في اتجاه رباني “ومنذ اللحظات الأولى في الإسلام اتسم العلم بالخير واستهدف الخير، ولم يستهدف العلم الإسلامي في يوم من الأيام، التنكيل بالإنسانية أو الاستعلاء أو التسابق من اجل إيجاد وسائل التدمير والتخريب، وغنما هو قراءة باسم المربي، وكان العلم الإسلامي من اجل ذلك ضرورة وليس ترفا“[7]، وفي الحكمة: “نصب الخلق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد، ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العالم بالعقل“[8].
والتربية العقلية في السنة النبوية، تضطلع بدور تزويد العقل بالعلم بمفهومه السابق، “وتعمل على تنمية وظائف العقل من تفكير وتذكر ونصور وملاحظة وتأمل، ودور المربي المسلم هنا هو مساعدة الإنسان على الاهتداء بهدي العقل السليم والمحاكمة العقلية الرزينة، وتنمية حب الاستطلاع، وتحري الحقائق للوصول إلى العلم الصحيح تحقيقا للخير وسعادة الإنسان“[9]. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “فقيه أشد على الشيطان من ألف عابد“[10]، وقال تعالى: “وقل ربي زدني علما” [طه، 111]، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع“[11]. وهكذا فإن العقل هو وسيلة كسب العلوم والمعارف النافعة، وإزكائها وتنميتها، وهو وعاؤها الحافظ لها، والقادر على توظيفها والاستفادة منها في جميع مجالات الحياة.
وإذا كان هذا منهج القرآن في تربية العقل، فما هو منهج السنة النبوية –باعتبارها التطبيق العملي للقرآن– في تربية الطاقات العقلية وتنميتها؟…
يتبع في العدد المقبل…
———————–
1. الترمذي، الصحيح، ج: 8، ص: 170، “وقال عنه حديث حسن غريب“.
2. مجلة الوعي الإسلامي، العدد 339، السنة 30. ذو القعدة 1414 أبريل 1994، ص: 85-86.
3. المتقي، منتحب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ج.1، ص: 155، “رواه أبو الشيخ عن ابن عباس“.
4. عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، ص: 54.
5. محمد فاضل الجمالي، نحو توحيد الفكر التربوي في العالم الإسلامي، ص: 89.
6. السيد قطب، هذا الدين، ص: 22.
7. د. عبد الحميد محمود، موقف الإسلام من الفن والعلم والفلسفة، ص: 87.
8. محمد تقي المدرسي، الفكر الإسلامي مواجهة حضارية، ص: 23-24.
9. عبد الجواد سيد بكر، فلسفة التربية الإسلامية في الحديث الشريف، ص: 204.
10. الترمذي، السنن، كتاب العلم – ج. 5، ص: 123.
11. ابن ماجة، السنن، ج. 1، ص: 192.
أرسل تعليق