البديل الإسلامي في التمويل الاقتصادي.. (8)
[نظرة الإسلام إلى المال]
الأصل في المال والثروة في الإسلام أنه نعمة وخير، كما يفهم من قوله تعالى عن الإنسان: “وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ” [العاديات، 8] والخير هنا المال، كما ورد عن السلف، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: “نعم المال الصالح للرجل الصالح“[1]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده“[2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “ما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف له فخذه وتموَّله، وما لا فلا تُتْبعه نفسك“[3]. كما يدل على ذلك استعاذته صلى الله عليه وسلم من الفقر، فكان من دعائه قوله صلى الله عليه وسلم: “اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم“[4]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى“[5].
وهذا لا يتعارض مع حثه صلى الله عليه وسلم على الزهد في الدنيا ومدح القناعة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: “ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس“[6] وقوله صلى الله عليه وسلم: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل“[7]. ذلك لأن الزهد إنما هو عدم تعلق قلب الإنسان بالمال، ومتاع الدنيا، وليس هو خلو اليد منهما.
والمال هو قوام الحياة، والسبيل إلى تحقيق الإنسان عامة حاجاته، وقد قال الله سبحانه: “وَلَا تُوتُوا السُّفَهَاءَ امْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا” [النساء، 5]. والمال سلاح ذو حدين، فيمكن أن يكون خيراً عظيماً للإنسان إذا استخدمه في وجوه البر والخير، وكسبه من طريق حلال، كما يمكن أن يكون شراً كبيراً، إذا استخدمه الإنسان في المعاصي والآثام. ومن المؤسف جداً أن أكثر الناس يستعمله في المحرمات ويكسبه من طرق حرام، فيكون وبالاً عليه في الدنيا والآخرة.
وهذه النظرة للمال هي من أهم وجوه الاختلاف بين النظام الإسلامي والأنظمة الأخرى. وبمثل هذه النظرة إلى المال ينظر الإسلام إلى السلع والبضائع، يعدها نعماً، ويسميها رزقاً وطيبات، وهذا يحمل معنى الحسن والنقاء والطهارة، والقيم الأخلاقية، وأما المواد الضارة كالخمر والخنزير والميتة وأمثالها فيسميها خبائث؛ يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ” [البقرة، 171]؛ ويقول عن المؤمنين من أهل الكتاب: “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالاِنْجِيلِ يَامُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ” [الاَعراف، 157]. وكلمة الرزق تحمل معنى إيمانياً، إذ تُذكِّر أن الله هو المانح المعطي الرازق، فتذكر الإنسان بربه الذي أنعم عليه بهذه السلع؛ كي يشكر الله عليها، ويؤدي حق الله تعالى فيها. ويعد الإسلام السلع ملكا للمجتمع، ويأمر الأغنياء، أن ينفقوا منها على الفقراء، ويذم من يمنعها عن غيره؛ قال الله تعالى: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ” [يس، 46]. فهذا منطق الكفار، وأما حال المؤمنين فكما وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز: “الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ” [البقرة، 261].
والتمتع بالطيبات محمود إذا كان لقصد العيش وَفْق شريعة الله عز وجل وهو سبحانه ينكر على من يحرمه فيقول: “قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” [الاَعراف، 30]. ولكن الإسلام يحرم الإسراف أي الإنفاق في الحلال بما يزيد عن الحاجة، كما يحرم التبذير وهو الإنفاق في الحرام، وفي الحلال على طريق السفه. وفي المقابل يأمر بالاعتدال؛ كما قال رب العزة تبارك وتعالى: “وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا” [الاِسراء، 29].
وهذا فرق كبير بين نظام الإسلام، والأنظمة الأخرى، وخاصة النظام الرأسمالي حيث يبلغ الإسراف والتبذير فيها مداهماً، دون حساب ولا رقيب، ولا إنكار، ولا لوم، بينما الإسلام لا يكتفي باللوم والإنكار على المسرفين والمبذرين، بل يعاقب عليهما، ويحرم أصحابها من حرية التصرف في أموالها، ويحجر عليها، ويضعها في يد وصي ينفق عليها منها بالمعروف كما سبق في الآية التي مضت “وَلَا تُوتُوا السُّفَهَاءَ امْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا” [النساء، 5].
يتبع في العدد المقبل..
————————-
1. رواه أحمد عن عمرو بن العاص وسنده صحيح، (4/197).
2. رواه الترمذي والحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
3. رواه الشيخان وغيرهما عن عمر.
4. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة.
5. رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود.
6. رواه ابن ماجه والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن سهل بن سعد.
7. رواه البخاري وغيره عن ابن عمر.
أرسل تعليق