البديل الإسلامي في التمويل الاقتصادي.. (10)
[إشراف الدولة على التمويل الاقتصادي]
ومن وظيفة الدولة في الإسلام الإشراف على التمويل الاقتصادي؛ حتى لا يحدث أي خلل فيه، وخوفاً من أن يتدخل بعض المنتفعين والأغنياء وأصحاب الشركات الكبرى وغيرهم للتلاعب بالسوق، واحتكار الأموال بغير حق، وإحداث الأزمات، والقيام بالغش والظلم والخداع، فالدولة حارسة للقوانين المأخوذة، من الشريعة الإسلامية بقوة السلطان. ومن وظيفة الدولة المسلمة جمع الزكاة من الأغنياء، وتوزيعها على الفقراء، هذا في المواشي والمزروعات، وأما في النقود فقد ترك لصاحب المال إخراج زكاة ماله بنفسه، وفي هذا تحقيق المصلحة المثلى بإيصال المال إلى مستحقيه، فبعضهم يعرف مالك المال، وربما كان من أقاربه فهو يساعده بذلك، ويصل رحمه، وربما كان بعض الفقراء لا يعلمهم الناس، فتتولى الدولة إيصال الزكاة إليهم. ثم إن علمت الدولة أحداً منع زكاة ماله عاقبته بأخذ الزكاة منه قسراً، وزيادة على ذلك تأخذ نصف ماله الذي وجبت فيه الزكاة؛ كي تمنع أي أحد أن تسول له نفسه هضم حق الفقراء. وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا أخذوها منه، وشطر ماله، عزمه من عزمات ربنا عز وجل ليس لآل محمد منها شيء“[1].
وللقيام بواجب إشراف الدولة أنشأ المسلمون وظيفة المحتسب الذي يرأس جهازاً خاصاً في الدولة يسمى الحسبة، وذلك في وقت مبكر وفي عهد الخلفاء الراشدين، يتولى العاملون فيه مراقبة المكاييل والموازين، ومنع الاحتكار لأقوات الناس، ومنع الغش، ومعاقبة المتلاعبين بالأسواق والأسعار، والذين يبيعون المواد المحرمة ويصنعونها وينتجونها، وغير ذلك من الشؤون والمخالفات، وطرق الكسب الحرام، وكل ما فيه إضرار بمصلحة الناس، وشؤون معاشهم وحياتهم.
ومن وظيفة الدولة كذلك عدم التدخل لتحديد أسعار السلع، ويترك ذلك لحركة السوق الطبيعية بناء على قانون العرض والطلب، حرصاً على تحقيق العدالة، ومنعاً لظلم البائعين والمستهلكين؛ ذلك لأنه ليس من العدل إجبار البائع على بيع سلعته بسعر أقل مما يصل إليه التعامل الحر في السوق، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “غلى السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لو سعرت؟ فقال: “إن الله هو الخالق القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله، ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال“[2]. هذا إذا كانت السوق تسير بوضع طبيعي تجري فيه المنافسة الحرة، ويتوفر فيه تكافؤ الفرص، وتشرف الدولة عليه، فتوفر الشروط الطبيعية، وتمنع الغش والاحتكار والتلاعب. أما إذا وقع شيء من الاحتكار وتمالؤ التجار على رفع الأسعار، والتلاعب بالسوق، فحينئذ يجوز للدولة أن تتدخل، وتمنع الظلم، وتحدد الأسعار؛ دفعاً للظلم والاستغلال.
كما يسعى الإسلام لتداول المال بين جميع الناس، ويحارب حصر تداوله بين الأغنياء، فقد أرسى القرآن هذه القاعدة بقوله تعالى: “كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَغْنِيَاء مِنكُمْ” [الحشر، 7]، كما يسعى الإسلام لتفتيت الثروة كلما انقضى جيل من البشر عن طريق نظام المواريث، ويساعد على التقريب بين الطبقات إضافة إلى ذلك بواسطة نظام الزكاة والصدقات والكفارات والأوقاف. ويفرض الإسلام العدالة في تشريع الضرائب، وبعيد النظر فيه كي لا يكون مجحفا بالطبقات الفقيرة، ويجعله متناسباً مع مقدار الثروة التي يملكها الإنسان، ولذلك يقلل ما أمكن من الضرائب غير المباشرة على السلع الضرورية أو يلغيها.
ومن صورها منع تنمية الملكية الفردية إذا أضرت بمصلحة الفرد الآخر أو الجماعة، وبناء على هذه القاعدة حرم الإسلام الربا والاحتكار، والغش والغبن، والربح الفاحش. ومن صورها تشريع نظام الميراث الدقيق؛ كي تتفتت الثروات باستمرار، فيقضي بذلك على أن تكون دولة بين أفراد معينين فقط. ومن صورها أخذ قدر كاف من ذوي اليسار فوق الزكاة، وذلك إذا خلا بيت المال، وكانت مؤسسات الدولة بحاجة إلى المال لتسيير الأمور الضرورية في المجتمع كنفقات الدفاع، والقضاء على المجاعات، وتوفير المساكن الضرورية للمحتاجين[3]. ومنها عدم كنز الثروة، بل توظيفها لأداء وظيفته الاجتماعية المقررة، لأن ذلك محرم باتفاق الفقهاء[4].
ولا يجوز الاعتراض بأن عصمة المال مقررة في الإسلام، لأن هذه العصمة مقررة في مواجهة من يعتدي عليها من اللصوص والمزورين، والغاصبين ونحوهم لا في مواجهة الأمة ومصالحها[5].
ثم إن القرآن الكريم قد دلنا بوضوح وقوة إلى قاعدة اجتماعية في غاية الأهمية، هي أن الغنى سبب عظيم من أسباب الفساد والترف والطغيان والبغي، قال تعالى: “وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الاَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ” [الشورى، 25].
لأنه هو خلقهم، ويعلم سرهم ونجواهم، وخصائص تكوينهم، ولذلك قال عز من قائل في آية أخرى: “كَلاَّ إِنَّ الاِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى” [العلق، 6-7].
فإذا أدركنا هذه الحقيقة الواضحة في القرآن والسنة وقواعد الإسلام المقررة، لما رضينا إلا أن يكون الاقتصاد الإسلامي اقتصادًا موجهًا يحقق العدل الاجتماعي الكامل، ويقضي على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ويذيب الفوارق غير الطبيعية في المجتمع، ويهيئ أمام الأفراد جميعًا الفرص المتكافئة، ويحول دون تكديس الثروات في أيدي قلة قليلة من الناس، ويوجه ثروة الأمة إلى تقوية المجتمع ماديًّا ومعنويًّا بدل صرفها في الترف والسفه، والفساد والاستعلاء في الأرض.
يتبع في العدد المقبل..
—————————————-
1. حديث شريف، رواه أبو داود (الزكاة 5/1575)، والنسائي (الزكاة 4/2442)، والدارمي، (الزكاة 36/1/333/1684)، وأحمد (5/2و4)، كلهم من عن معاوية بن حيدة القشيري.
2. حديث شريف، رواه أحمد (3/156، و2/337و 373و 3/85 و 282) وأبو داود (البيوع 51/3451) والترمذي، بيوع 73، وابن ماجه، تجارات 27ـ، والدارمي، البيوع 13.
3. أبو عبيد، “الأموال”، ص: 358.
4. الخفيف علي، الملكية في الإسلام 1/44؛ والزهاوي، سعيد، التعسف في استعمال حق الملكية”. الطبعة1 1375-ص: 548.
5. الخولي لبهي، الثروة في الإسلام الطبعة 2، 1391هـ، ص: 114.
أرسل تعليق