البداية من الإنسان… (2)
يمكن أن أختصر ما سبق في الحلقة الماضية بالقول: إن البداية من الإنسان… فكل الأحوال التي تعتريه من صلاح أو فساد، وهدى أو ضلال، وسعادة أو شقاء، ونجاح أو فشل، وسعة أو ضيق، وغنى أو فقر… كل هذه الأحوال لا تصيب الإنسان إلا بسبب منه، وبداية منه؛ لقوله سبحانه: “لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا” [سورة النساء، الآية: 123]، وقوله عز وجل: “ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ يُجَازِى إِلَّا الْكَفُورُ” [سورة سبأ، الآية: 17].
فالله تبارك وتعالى لا يظلم أحدا، لقوله سبحانه: “ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتَ اَيدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ” [سورة اَل عمران، الآية: 182]، بل نحن الذين نظلم أنفسنا بركوب الأسباب المعطبة، “إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” [سورة يونس، الآية: 44].
ومن أبرز الشواهد لهذا المعنى ما قصه علينا القرآن من تجربة بني إسرائيل، إذ فضلهم الله على العالمين، ومكن لهم في الأرض بما صبروا، وبما تحملوا من استكبار فرعون، قال الله تعالى: “وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ” [سورة الاَعراف، الآية: 137]، وقال سبحانه: “وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ” [سورة الدخان، الآية: 32].
لكن لما لم يحافظوا على هذه النعمة، وتنكبوا الجادة، وتمادوا في الطغيان، وصدوا عن السبيل، حصدوا النتائج المرة، قال عز من قائل: “فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا” [سورة النساء، الآية: 160]، وقال سبحانه: “ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ” [سورة الاَنعام، جزء من الآية: 146].
لا أحد فوق قانون التغيير، إنه قانون خطير ينطبق على الجميع، وهو قانون طرفه الأول بيد الإنسان؛ فالبداية منه سلبا أو إيجابا: “من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا…” “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُومِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ” [سورة النحل، الآية: 97]، “وَلَوَ اَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالاَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ” [سورة الاَعراف، الآية: 96].
والخلاصة التي أريد أن أؤكدها هنا أن الأخذ بالأسباب راجع إلى اختيارنا، وأن ترتب النتائج على تلك الأسباب أمر حتمي بمشيئة الله تعالى، وهكذا يصير الإنسان مسيطرا على مفهومه للحتمية. كما أن الإنسان حين يغفل عن سنن الله في الكون؛ فإن سنة الله لا تتردد ولا تتوانى في أن تبرز إلى الوجود دون شعور من الإنسان الغافل. وحينئذ لن يتمكن الإنسان أن يرى للتاريخ أسبابا وقوانين، وإنما يراه واقعا حتميا لا يرتفع، ولا دخل لجهد الإنسان فيه.
ومن هنا نشأت الجبرية السائدة في حياة المسلمين اليوم. إن بعض الناس يعتقد في هذا الدين بالمنطق الإسرائيلي الذي ذكره القرآن: “قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبَ اَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ” [سورة المائدة، الآية: 24].
إنهم ينتظرون من هذا الدين ما دام منزلا من عند الله أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب دون أي اعتبار لجهد البشر وطاقتهم، ودون أي اعتبار للسنن التي يجري عليها الكون والتاريخ.
إذا نظرنا إلى المسلمين بهذا المنظار نجدهم على طرفي نقيض: إما أن تجد الذي بلغ به اليأس إلى حد القنوط والإحباط، وإما أن تجد الذي بلغ به الاغترار والأمن والطمأنينة إلى أن الدنيا بخير، وواقع هذه الأمة بخير.. ومنطق هذين الصنفين هو الشائع والسائد اليوم، وقلَّ أن تجد الإنسان الفطِن الألمعِي الذي يشعر بالخطر الحقيقي، ويقرأ الواقع وسنن التاريخ قراءة صحيحة، ويدرك الأمل الواثق في النجاح.
هذا هو التوازن مطلوب؛ لأن من المسلمين من لا يشعر بالخطر دقه أو جله، ومنهم من بلغ به الشعور بالخطر إلى درجة اليأس كما قلت… وإلى حد الاعتقاد بأنه لا فائدة من الحركة، فتراهم لا يشعرون بالفرص التي تفوتهم؛ وهم قاعدون قابعون يتفرجون على الأحداث، كأن ما يجري في الواقع لا يعنيهم، وكأن إرادتهم وهممهم لا علاقة لها بتوجيه الأحداث.
هناك حقيقتان عظيمتان نريد أن نعقلهما من هذا الحديث؛ الأولى: إنه كلما ازداد وعي الإنسان، وبذل جهده في فهم حقائق الأشياء والبصر بقوانينها علما وعملا، أمكنه ذلك من رفع مستوى مشاركته وإيجابيته في إحقاق الحق وتغيير وجهة التاريخ طوعا أو كرها.
والثانية: أن التخلف الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم متكون في الأصل من أجزاء التخلف الذي يتسبب فيه كل شخص من المسلمين، ويتحمل مسؤوليته في نطاقه الخاص؛ أعني من تخلفه عن القيام بالواجب سواء تعلق الأمر بالواجب إزاء نفسه، أو بالواجب إزاء مجتمعه أو أمته.
إن التغيير الذي ننشده جميعا يبدأ من الواجبات الصغيرة؛ والواجبات المتواضعة في نطاق وجودنا الخاص في كل يوم، وفي كل وقت، وفي كل موقع. وهذا ما ينبهنا عليه القرآن: “وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِنْ قُرْءَانٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ اِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا اِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الاَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ” [سورة يونس، الآية: 61].
ولنتأمل أيها الإخوة سنن الله عز وجل في التغيير، فلم يستبدل سبحانه نعمة أنعمها على الناس إلا بعد أن بدأوا هم بالإعراض عن شكره وطاعته: “ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً اَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [سورة الاَنفال، الآية: 53].
ودوام التأمل في أحوال الناس يجعلنا نردد قوله تعالى: “وَهَلْ يُجَازَى إِلاَّ الْكَفُوُر” [سورة سبأ، جزء من الآية: 17].
أرسل تعليق