الاهتمام الاجتماعي للصوفية المغاربة
- ذ. مصطفى بوزغيبة
- باحث بمركز الإمام الجنيد
إن ما يمتاز به التصوف المغربي هو قربه من الواقع المعيش، واحتضانه لمشاغل وهموم الأمة، عبر خدمة قضاياها وانشغالاتها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وتحقيق المصالحة بين القبائل المقتتلة، وحقن الدماء، والسهر على تحقيق الوحدة بين مختلف مكونات المجتمع المغربي، ونشر الإسلام، وترسيخ قيمه التضامنية في وجدان وروح المغاربة، حتى قال بعض الصالحين: “طلبنا التوفيق، فوجدناه في إطعام الطعام”[1].
ولا يخفى على أحد مدى إسهامات الزوايا والطرق الصوفية في الحقل الاجتماعي التضامني على مر العصور، وفي هذا المقال سنحاول الاطلاع على الدور الاجتماعي للزوايا والرباطات، ورجال التصوف وكذا النساء اللواتي لهن حظ لا يخفى في هذا المجال، كما سنقوم بإطلالة حول تمظهرات هذا العمل الاجتماعي، وكيف كانت للمؤسسة الزوايا، وأهل التصوف الريادة في هذا المجال.
1. الاهتمام بالطلبة
لعل من المجالات التي اهتمت بها مؤسسة الزوايا هي فئة الشباب، وبالخصوص فئة طلبة العلم الشرعي، حيث حرص الصوفية على توفير ظروف جد حسنة للطلبة من مأكل ومشرب وملبس وكتب وتوفير كل ما ينفعهم من أجل حسن دراستهم وتحصيلهم، وتكوينهم، حتى يَصفُو لهم جو الاشتغال بالعلم وحده، ولا يكون لهم أي تشوف إلى هَمّ الرزق، ومشاغل الدنيا المكدرة لذهن الطلبة والمشوشة عليهم، فيجمعوا هممهم وطاقاتهم الخلاَّقة ليصرفوها في الإبداع، وكل ذلك من أجل تحقيق مقصد أسنى وهو أن يكونوا منارا ومشعلا لأهل بلدهم، ومصدرا لازدهار العلم والمعرفة والشهود الحضاري للمغرب.
فقد برز في التاريخ المغربي عديد من الزوايا التي اهتمت بهذا الشأن، ولعل أهم هذه المؤسسات، الزاوية الدلائية التي تصرف الأموال الطائلة في التكفل بحاجيات الطلبة، من إعداد الطعام، وصرف المرتبات للشيوخ الذين يُدرّسون الطلبة، وغيرها من الأمور التي تجعل الطالب يُقبل بكليته على الدراسة، فقد حكت لنا كتب التراجم عن كرم الشيخ أبي بكر بن محمد ابن سعيد الدلائي ما لا يتخيله البال، فكان –رضي الله عنه- كثير الإطعام بالأنواع المختلفة من الطعام، أمرا خارجا عن الوصف، مباينا للعادة والإلف، فكانت مراجله دائما تغلي، وطباخه لم يزل يفرغ ويملي:
في جِفَان كالجَوَاَبِــــي وقُــــــدُور رَاسيـــــــات
هكــذا يفعــــل دأبــــــا بالوُفُـــــــودِ الــــزائـرات
بل، كان يطحن كل يوم خمسا وعشرين صحفة[2]، من القمح مع خمسة وعشرين تِليِّسا[3]، ثم كان يطعم كل إنسان تارة بما اشتهاه في نفسه، وتارة بما يناسبه مع أبناء جنسه، فليس الحضري عنده كالبدوي، ولا الضعيف كالقوي[4].
وأما في عهد ابنه محمد بن أبي بكر الدلائي فكان يُطعم في سنة من سني الغلاء، سبعة آلاف من الفقراء كل يوم، زيادة على الواردين عليه والمقيمين عنده من طلبة العلم وغيرهم[5]،وأما السمن فاتخذ له ينابع ينصب لها من قوادس جالبة له من قدور ونحاس كبار مُعداة لذلك[6].
يتبع في العدد المقبل..
————————————-
1. أبو العباس أحمد بن الحسين القسنطيني الشهير بابن قنفذ 740-810هـ: أنس الفقير وعز الحقير في التعريف بالشيخ أبي مدين وأصحابه رضي الله عنهم، تحقيق: أبو سهل نجاح عوض صيام، تقديم: علي جمعة، دار المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1422هـ/2002م، ص: 59.
2. الصَّحفة: كالقصعة، وقال ابن سيده: شبه قصعة مُسلَنطِحَة عريضة وهي تشبع الخمسة ونحوهم، والجمع صحاف. وفي التنزيل: “يُطاف عليهم بصحاف من ذهب”، لسان العرب، لابن منظور، حرف الفاء، فصل الصاد المهملة، 9/223.
3. التليسة: وعاء يُسّوى من الخوص شبه قفة، وهي شبه العيبة التي تكون عند القصّارين”، تاج العروس من جواهر القاموس، للزبيدي، باب السين، فصل التاء الفوقية مع السين، المجلد الثامن، 15/257.
4. البدور الضاوية، 1/54.
5. الزاوية الدلائية، 49.
6. صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر، لمحمد بن الحاج الإفراني، 137.
أرسل تعليق