الاستسلام إلى الله تعالى
قال الله تقدست أسماؤه: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُومِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ” [يونس، 57-58].
الناس في استقبال نعم الله تعالى ومعاملته على ثلاثة أقسام:
الأول: فَرح بالنعم والمنن بوجود متعته فيها؛ فهذا من الغافلين يصدق عليه قوله تعالى “فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ” [الاَنعام، 45].
والثاني: فرح بالمنن من حيث إنه شهدها منة ممن أرسلها، ونعمة ممن أهداها، وهذا يصدق عليه قوله تعالى: “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ” [يونس، 58].
والثالث: فرح بالله لم يشغله من المنن ظاهر مُتْعتها ولا باطن مِنَّتها، بل شغله النظر إلى الله عما سواه والجمع عليه، فلا يشهد إلا إياه، وهذا يصدق عليه قوله تعالى: “قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ” [الاَنعام، 92] وفي مطلع هذه الآية قوله: “وما قدروا الله حق قدره” [الاَنعام، 92]، وهذا المعنى أشار إليه النبي صلوات ربي وسلامه عليه بقوله “وجعلت قرة عيني في الصلاة” ولم يقل بالصلاة إذ هو صلى الله عليه وسلم لا تقر عينه بغير ربه، وكيف وهو يدل على هذا المقام ويأمر به من سواه بقوله أن تعبد الله كأنك تراه، وقد أوحى الله إلى داود عليه السلام “يا داود قل للصدّيقين بي فليفرحوا وبذكري فليتنعَّموا“.
وفي السياق نفسه كتب تاج الدين ابن عطاء الله السكندري رحمه الله ونفعنا بعلمه، لبعض إخوانه قائلا: “وبعد؛ فلا أرى شيئا أنفعَ لك من أمور أربعة:
الاستسلام إلى الله تعالى، والتضرع إليه، وحسن الظن به، وتجديد التوبة إليه ولو عدت إلى الذنب في اليوم سبعين مرة.
ففي الاستسلام إلى الله تعالى الراحة من التدبير معه عاجلا والظفر بالمنة العظمى آجلاً، والسلامة من الشرك بالمنازعة؛ ومن أين لك أن تنازعه فيما لا تملكه معه، تصور نفسك في مملكته فإنك قليل في كثيرها وصغير في كبيرها، يُدبرك كما يدبرها، وإن التدبير معه من كبائر القلوب والأسرار، وتجد ذلك في كتاب الله تعالى حيث قال: “وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ” [القصص، 68].
وأما التضرع إلى الله تعالى ففيه رفع الشدائد، والانطواء في أردية المنن، والسلامة من المحن، فتعوض جزاء ذلك أن يتولى مولاك الدفع عن نفسك في المضار، والجلب لك في المسار، وهو الباب الأعظم والسبيل الأقوم الذي يؤثر مع الكفران فكيف لا يؤثر مع الإيمان، ألم تسمع قوله تعالى “وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الاِنْسَانُ كَفُورًا” [الاِسراء، 67].
والتضرع هو الباب الذي جعله الله بينه وبين عباده، متى فتح عليك به فتح عليك من كل خيراته وأوسع هباته “فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [الاَنعام، 44].
وأما حسن الظن بالله فَبخٍ بَخٍ بمن منَّ الله عليه بها، فمن وجدها لم يفقد من الخير شيئا، ومن فقدها لم يجد منه شيئا. فلا تجد أدل على الله منها تُعلِمُك عن الله بما يريد أن يصنعه معك، وتبشرك ببشائر لا يترجم عنها لسان؛ وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق حدثه قال: “نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما”.
وأما تجديد التوبة إليه فهي عين كل مقام ورتبة لا مزية لمن فقدها، والتوبة روح المقامات وسبب الولايات، فهي مطلوبة من كل رسول ونبي، وصدّيقٍ وولي، وبارّ تقي وفاجر غوي، وتجد ذلك في كتاب الله حيث قال “يا أيها الناس اتقوا ربكم” [النساء، 1].
فتقواه بالتوبة إليه والندم بين يديه، فأهل الشرور توبتهم بالخروج من شرورهم، وأهل الخير توبتهم بعدم الوقوف مع أعمالهم ورؤيتها ورؤية أنفسهم. وبالجملة؛ فمن لم ينفعه القليل لم ينفعه الكثير، ومن لم تنفعه الإشارة لم تنفع فيه العبارة، وإذا أفهمك الله لم ينقطع سماعك عنه أبدا.
نسال الله أن ينفعنا بما نعلم وأن يعلمنا ما ينفعنا والحمد لله رب العالمين..
أرسل تعليق