الاستخلاف وأثره في الاستهلاك
إن مفهوم الاستخلاف كإطار مذهبي يحدد السلوك الاقتصادي، ويضبط العلاقات الاقتصادية يعتبر قاعدة أساسية في التصور الإسلامي، فهو يوجه جميع التصرفات التي يمارسها الفرد المسلم، قال تعالى: “وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه” [الحديد، 7]، والإنفاق يعم جميع مراحل الدورة الاقتصادية من إنتاج واستهلاك وتوزيع وتداول.
فالاستخلاف كمفهوم يؤطر جميع هذه المراحل، والشعور بهذه الحقيقة يجعل السلوك الاقتصادي محكوما بمضامين العقيدة الإسلامية، فالخطاب القرآني يقرر لبني البشر أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما مولكم إياها وخول لكم الاستماع بها، وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه[1].
فالاستخلاف في الشريعة الإسلامية له أبعاد اقتصادية واجتماعية وإنسانية تحكم سلوك المسلم، وتجعله يسعى نحو تحقيق الرشد الاقتصادي في جميع تصرفاته.
إن تأسيس التصور الإسلامي على مفهوم الاستخلاف يجعل لسلوك الفرد أهدافا وغايات، فينزل تصرفاته الاقتصادية على مقاصد التشريع، فالمسلم كائن مكلف ومستخلف وأمين على ما وهب من نعم “وما بكم من نعمة فمن الله” [النحل، 53].
والتصور الإسلامي من هذا المنظور يباين ويفارق التصور الغربي الذي يقوم على أساس حيوانية الإنسان، فهو كائن حر طليق، لا تقيده قيود ولا يلتزم بضوابط، همه استقصاء أكبر قدر من اللذة وإشباع رغباته الحسية، فلسان حاله يقول: “إنني أريد كل شيء لنفسي، وإنني أجد المتعة في الاقتناء، وليس في المشاركة، كما يعني أنني يجب أن أكون جشعا؛ لأنه إذا كان هدفي هو التملك، فإنني أكون أكبر بقدر ما تزيد ملكيتي، ويجب أن أشعر بأنني خصم للآخرين جميعا، لزبنائي الذين أريد أن أخدعهم، ولمنافسي الذين أريد أن أقضي عليهم، ولعمالي الذين أريد أن أستغلهم، وإنني لا يمكن أن أشبع؛ لأنه لا حد لرغباتي، وإنني لا بد من أن أحسـد من يملك أكثر مما أملك، وأخاف ممـن يملك أقل”[2].
إنها خصائص المستهلك الرشيد في المفهوم الاقتصادي الوضعي، فهو إنسان أناني مادي بحث، لا مكان لحقيقة الاستخلاف في سلوكه، إن الاستخلاف كمفهوم يؤطر ويوجه سلوك المستهلك نحو المستوى الرشيد الذي رسمته الشريعة الإسلامية يجعل الفرد سهل الانقياد لأوامر الله تعالى. ولتقرير مفهوم الاستخلاف في النفوس أضاف القرآن الأموال إلى الله في كثير من الآيات حتى يشعر الإنسان بمسؤوليته عنها، وأنه مؤاخذ إذا قصر في حسن تدبيرها وإدارتها.
ويمكن بيان أثر الاستخلاف في توجيه الاستهلاك من خلال ما يلي:
1. الدعوة إلى توسيع قاعدة تمويل الاستهلاك
“ومالكم أَلاَّ تُنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والاَرض” [الحديد، 10]، فقد دعاهم إلى الإنفاق وألا يخشوا فقرا، لأن ما في السماوات والأرض هو ملك لله، فهم يتصرفون فيه تصرف نيابة ووكالة. وقد كان لهذه التوجيهات الأثر البالغ في نفوس المسلمين، فيحكى أن أبا حنيفة كان يبعث بالبائع إلى بغداد فيشتري بها الأمتعة، ويحملها إلى الكوفة ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم وكسوتهم، وجميع حوائجهم ثم يعطيهم ويقول: “لا تحمدوا إلا الله، فإني ما أعطيكم من مالي شيئا، ولكن من فضل الله علي فيكم“[3].
إن شعور المسلمين بحقيقة الاستخلاف هو الذي دفعهم للسؤال عن مصارف الإنفاق وكيف ينفقون “يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاَقربين واليتامى والمساكين وابْن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم” [البقرة، 213].
وعن أنس بن مالك قال: “أتى رجل من تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني ذو مال كثير، وذو أهل ومال وحاضرة فأخبرني كيف أصنع؟ وكيف أنفق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخرج الزكاة من مالك، فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرابائك، وتعرف حق المسكين والجار والسائل“[4].
إن الاستخلاف له أبعاد نفسية ووجدانية تحدد علاقة الفرد بالمال والثروة، وينعكس هذا الأثر على علاقاته الاجتماعية والاقتصادية، ذلك أن تمكن حقيقة الاستخلاف في باطن الفرد تثمر أخلاقا سامية كالإيثار والإحسان، فيسعى الفرد إلى شكر الله على آلائه ونعمائه؛ لأن ما بيده من فضل الله: “قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءَأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم” [ النمل، 40].
إنها مسؤولية وابتلاء واختبار لإيمان المومن هل يحس بالافتقار إلى خالقه أو يأخذه الاستعلاء والاستكبار فيقول: “إنما أوتيته على علم عندي” [القصص، 78]، وهذا نموذج لكل من غفل عن حقيقة الاستخلاف فيظن أن ما بيده من مال إنما هو نتيجة حيلته وذكائه ودهائه، ولا يلتفت إلى أنه مستخلف فيه وقيم عليه، ومن ثم يجب عليه بذله للآخرين لينتفعوا به؛
2. إقرار رقابة المجتمع على الأموال
إن الشريعة الإسلامية ألغت فكرة الربط المادي بين المال ومالكه[5]، والمقصد من هذا الإلغاء هو إيجاد رقابة دائمة حتى يحقق المال وظيفته الاجتماعية؛ لأن مقتضى الاستخلاف أن منافع المال ينبغي أن تعود على المجتمع، “ولا تُوتُوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما” [النساء، 5].
وفي الآية دلالة عميقة في تقدير المال وصيانته، فالمال في يد الفرد ليس ملكا له وحده، وإنما هو جزء من ثروة المجتمع، فإذا أساء الفرد حسن استخدامه واستغلاله فللجماعة الحق في التدخل للحيلولة دون تبديده[6]، ولذلك نجد في الشريعة الإسلامية الحجر على السفيه[7]، “وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءَانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم” [النساء، 6].
فسبب الحجر هو سوء تصرف المكلف أو عدم إدراكه لشرط الاستخلاف لصغر أو غيره، ولذلك تدخلت الشريعة لفرض رقابتها؛ لأن السفيه يهدر تلك الأموال في النفقات الاستهلاكية، مما يعرض أموال المجتمع للضياع”[8]؛
3. ربط ترشيد الإنفاق بتحقيق رسالة الاستخلاف
إن الرشد في أبعاده ومضامينه يحقق مقاصد الشارع، فهو جمع بين الصلاح في الدين وحفظ الأموال، فإذا تخلف ركن من هذه الأركان لم يحقق المكلف رسالة الاستخلاف، وكان ذلك سببا في الإعراض عن الأمانة التي أنيطت به، فلقد ربط القرآن بين التبذير وبين الجحود والعصيان لله “ولا تبذر تبذيرا اِن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا” [الاِسراء، 27].
إن مضمون هذا الخطاب أن المبذر لم يحقق رسالة الاستخلاف، ولم يلتزم بالمنهج الذي رسمه له المستخلف، فهو جاهل “بمواقع الحقوق.. ومن جهل مواقع الحقوق ومقاديرها وأخطأها فهو كمن جهل بفعاله فتعداها“[9].
فعدم ترشيد الإنفاق يعني استخدامها في المحرمات، أو فيما هو مباح، ولكن على وجه غير مشروع، وفي هذا التصرف ضياع للأموال وسوء تخصيص للموارد، فالرشد الاقتصادي يعد من أبعاد رسالة الاستخلاف، وتوجيه للسلوك الاقتصادي وجهته الحقة باعتبار مسؤولية الفرد في تحري الوسائل المشروعة في كسب المال وفي إنفاقه “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه وعن عمله ماذا فعل فيه“[10].
وهكذا يتبين أن مفهوم الاستخلاف له أثر في توجيه الاستهلاك، إذ يحدد علاقة الفرد بالثروة وصلته بها، فلا يندفع في الإقبال على الإشباع المادي الحيواني، ولا ينس حقوق المجتمع في ماله فلا يضيعه، ولا يبعثره في المجالات التي لا تعود عليه وعلى المجتمع بالنفع.
يتبع في العدد المقبل..
——————————–
1. الكشاف للزمخشري، ج: 3، ص: 200.
2. الإنسان بين الجوهر والمظهر، إريك فروم، ص: 25.
3. مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه للذهبي، ص: 29، دار الكتاب العربي.
4. رواه أحمد عن أنس ورجاله، رجال الصحيح كما قال الحافظ المنذري، الترغيب والترهيب، ج: 1، ص: 263.
5. محاضرات في الفكر السياسي والاقتصادي في الإسلام، محمد فاروق النبهان، ص: 115.
6. الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي، محمد فاروق النبهان، ص: 121.
7. بداية المجتهد، ج: 2، ص: 210.
8. راجع الخلاف حول مفهوم الرشد عند الفقهاء، بداية المجتهد، ج: 2 ص: 212. وكذلك تفسير ابن كثير، ج:1، ص: 454.
9. أدب الدنيا والدين، الماوردي، تحقيق مصطفى السقا، الطبعة الثالثة 1955، مطبعة الحلبي ص: 178.
10. رواه البيهقي، واللفظ له وللترمذي مثله، وقال حديث حسن صحيح، انظر الترغيب والترهيب، ج: 1 ص: 76.
أرسل تعليق