الأمــانـة والمسؤولية (1/2)
يقول الله تباركت أسماؤه: “اِنا عرضنا الاَمانة على السماوات والاَرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الاِنسان إنه كان ظلوما جهولا” [سورة الاَحزاب، الآية: 72].
اختلف العلماء في تأويل معنى الأمانة في هذه الآية، حتى قال بعضهم إن هذا اللفظ من مشكل القرآن، فذهب ابن عباس إلى أن الأمانة هنا هي الفرائض التي أمرنا الله بها، وقال ابن مسعود هي التكاليف كلها وأشدها وأعظمها أمانة المال، وقيل هي العهد الذي أخذها الله على عباده في الأزل وقيل هي العقل؛ لأنه مناط التكليف، وقيل هي الإيمان وقيل غير ذلك.
ولو أردنا تدقيق النظر في جميع هذه الأقوال لقلنا إن حقيقة الأمانة ترجع إلى عنصرين أساسيين:
• أولهما: القيام بالواجب والشعور بالمسؤولية في أي ميدان، فكل واجب تعلق بالذمة وأشعر بضرب من المسؤولية عنه فهو أمانة.
• والثاني: استيفاء الجانب الباطني في أداء أمور الحق والواجب بحيث يستوي باطنك وظاهرك في النهوض بالواجب وأداء الحق. والأمين لا يحتاج إلى رقيب مطلع حتى يؤدي واجبه، وإنما شعوره الصادق بالمسؤولية يحمله على أن يضبط نفسه، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الناس. ولذلك قال ابن التين: الأمانة هي كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من المكلف. فكأن الواجبات لها ظاهر وباطن، والأمانة أن تؤدي هذه الواجبات في الباطن كما تؤديها في الظاهر.
والحاصل أن كل ما استحفظ عليه الإنسان من شأن دين أو دنيا فهو أمانة.
فالصلاة أمانة، والدين أمانة، وودائع الناس التي عندك أمانة، والأسرار التي بينك وبين زوجتك أمانة، وتولي شؤون المواطنين في أي ميدان أو قطاع أمانة، والقاضي في محكمته صاحب أمانة، والطبيب في عيادته، والأستاذ في مدرسته، والرجل في بيته، والمرأة في بيتها كلهم يتحملون أمانة والجميع مسؤول عن أمانته “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ” (متفق عليه) فمن حفظ الأمانة وأداها نجا وفاز، ومن خان الأمانة وضيَّعها خسر وخاب.
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: “الْقَتْلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ ذَنْبٍ إِلاَّ الأَمَانَةَ يُؤْتَى بِصَاحِبِهَا وَإِنْ كَانَ قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقَالَ لَهُ: “أَدِّ أَمَانَتَكَ فَيَقُولُ”: “رَبِّ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا فَمِنْ أَيْنَ أُؤَدِّيهَا” فَيَقُولُ: “اذْهَبُوا بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ حَتَّى إِذَا أُتِىَ بِهِ إِلَى قَرَارِ الْهَاوِيَةِ مَثُلَتْ لَهُ أَمَانَتُهُ كَيَوْمِ دُفِعَتْ إِلَيْهِ فَيَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ يَصْعَدُ بِهَا فِى النَّارِ حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ خَرَج مِنْهَا هَوَتْ وَهَوَى فِى أَثَرِهَا أَبَدَ الآبِدِينَ”[1].
ونعتقد أيها القراء الأفاضل أن أصل الأمانة معنى إيماني قلبي؛ كالخشية والتفوى والحياء من الله عز وجل. وهذا ما فصله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: “حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ”.
هذا هو الحديث الأول الذي رأى حذيفة، شاهد مصداقه في حياته، لقد رأى مجتمعا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتين أبي بكر وعمر قائما على أساس الإيمان والعلم. وهذا المركب بين الإيمان بالإضافة إلى العلم في رأي حذيفة هو سر وجود الأمانة في مجتمع الرعيل الأول، هذا المركب بين الإيمان والعلم هو الذي أفرز إنسان الأمانة ومجتمع الأمانة في عصر الصحابة النبوي والراشدي.
“أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ” يريد أن الأمانة استقرت في أصل قلوب الصحابة وكأنه يقصد بذلك الإيمان، لقد حصلوا الإيمان أولا ثم طلبوا العلن ثانيا. وأول علم كانوا يطلبونه هو علم القرآن قبل تعلم السنة، فازدادوا بصيرة في دين الله.
قال حذيفة: “وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا” يعني رفع الأمانة هذا هو الحديث الثاني الذي انتظره وهو رفع الأمانة أصلا. بحيث لا يبقى من يتصف بها إلا القليل النادر.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب حدثنا حذيفة قال: حدثنا صلى الله عليه وسلم: “يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ [يعني مثل أثر النار- أثر الاحتراق] ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ” وهو أثر قوة الحذمة في اليد”.
هذا تشبيه ومعناه أن القبائح والذنوب الأعمال السيئة لا تزال تصعف الإيمان حتى إذا تناهى الضعف لم يبق إلا أثر الإيمان إلا رسم الإيمان، وهو مجرد التلفظ باللسان والاعتقاد الضعيف الهش في ظاهر القلب، وليس في أصل القلب فشبهه بالأثر في ظاهر البدن، وكنى عن ضعف الإيمان وخيانة أمر الله والغفلة بالنوم. “ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ”.
ضرب مثلا لزهوق الأمانة حالا بعد حال ومرحلة بعد مرحلة بزهوق الحجر عن الرجل حتى يقع بالأرض. ومعناه أن الرجل بسبب إدمانه على الذنوب والمعاصي واختلاطه يأهل الخيانة والفجور تسلب منه الأمانة، فيصير خائنا بعد أن كان أمينا.
قال صلى الله عليه وسلم: “فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ” (رواه البخاري ومسلم).
يشير صلى الله عليه وسلم إلى اهتزاز مقاييس الناس وضعفها في معرفة الكفء الأصلح، وندرة وجود الأمين بحيث يبحث عنه وتشد إليه الرحال “حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا. ومن هنا ترجم الإمام البخاري لهذا الباب بقوله: “باب إذا بقي في حثالة الناس”، وقد أورد ابن حجر من الأحاديث ما يشرح معناه كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: “قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِذَا مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ يَصِفُ ذَاكَ، قَالَ: قُلْتُ مَا أَصْنَعُ عِنْدَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَخُذْ مَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ وَعَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ”.[2].
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لأداء أماناتنا، وأن يحفظها علينا، وأن يعيننا على حملها إنه سميع مجيب. والحمد لله رب العالمين..
———————-
1. رواه البيهقي موقوفا على ابن مسعود، وأصل الحديث عند مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ: “الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ”. دون زيادة الباقي.
2. رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد وابن ماجه في صحيحه وصححه الألباني
[1] رواه البيهقي موقوفا على ابن مسعود، وأصل الحديث عند مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ: “الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ”. دون زيادة الباقي.
[1] رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد وابن ماجه في صحيحه وصححه الألباني
أرسل تعليق