الأسوة آلية فعالة من آليات التخليق.. (9)
لم تقف دلالة مصطلح التزكية عند مقاصد الوحي في بناء الأمة وتكوينها، بل امتدت هذه الدلالة لتشمل الفرد الإنساني:
فقد تتحقق تزكية الفرد بدخوله في دائرة الإيمان: “وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى” [عبس، 3].
وفي تجنب الدخول في جهنم: “وَسَيُجَنَّبُهَا الاَتْقَى الَّذِي يُوتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى” [الليل، 17-18].
وعندما يكون عائد التزكية على النفس ذاتها: “وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ” [فاطر، 18].
وقد تكون نفس الفرد نفساً زكية، عندما تتصف بالإيمان والخير والصلاح والبر: “أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً” [الكهف، 73]، “لاِهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا” [مريم، 18].
ومما يلفت النظر أن أطول قسم في القرآن الكريم يتعلق بتزكية النفس: “وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا واَلاَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ اَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا” [الشمس، 1-11].
نلاحظ أن الله سبحانه أقسم بالعديد من مخلوقاته من الأشياء والأحداث والظواهر، وأقسم بنفسه على شيء عظيم، يتضمنه جواب القسم.
وجواب القسم في هذا السياق هو “قَدْ اَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا” وهكذا يفلح ويفوز وينجح في بغيته من تحقق بالتزكية: وهي البعد عما يغضب الله من الآثام، والإكثار مما يقرب من الله من الأعمال الصالحة، وبذلك ترتفع قيمة النفس. وفي المقابل يخسر ويخيب من تحقق بالتدسية: أي الخصائص التي تحول بين صاحبها وبين فعل الصالحات، وحرمانها من الترقي والزيادة في الخير، والسمو بالنفس.
والنفس الإنسانية التي يتحقق لها الفلاح بالتزكية وتلقى في مهاوي الخيبة والخسران بالتدسية، هي الذات الإنسانية جسماً وعقلاً وروحاً، وهي الفرد الإنساني والجماعة الإنسانية.
وللنفس الإنسانية مال تمتلكه بتفويض من مالكه الأصلي سبحانه، ولها بيئة مكن الله للإنسان واستخلفه فيها، ليسخر أشياءها وأحداهها وظواهرها في الإعمار، والبناء الحضاري.
لكن محور التزكية في كل ذلك هو ذلك الوجدان الإنساني الذي يكون موضوعاً للترقية والتربية والتنمية. وهذا الوجدان وجدانان: وجدان نزوعي، ووجدان إدراكي. والوجدان النزوعي له دوافع غريزية وحاجات مادية ويرتبط بما يصفه القرآن بالنفس الأمارة بالسوء النفس التي تنتهي إلى أن”الإنسان خلق هلوعاً” أما الوجدان الإدراكي فيمثله دوافع الفطرة البشرية في تلمس الحاجات الروحية، ويتحرك الإنسان معها من البعد المادي إلى الروحي فتتكون لديه نفس لوامة، لا تزال تترقى في درجات التزكية لتصبح النفس المطمئنة التي تستحق خطاب الله سبحانه لها: “ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي” [الفجر، 31-32].
يتبع في العدد المقبل..
أرسل تعليق