الأسوة آلية فعالة من آليات التخليق.. (15)
وبخصوص المرجعية الفردية نشير إلى أن بعض الظواهر داخل المنظومة الفكرية الغربية كالستالينية والموسولينية والهتليرية، في هذا العالم الذي يحتوشنا، كان لها أثر بالغ في خلخلة التوازن الذي ينبغي أن يحكم المصلحة الفردية والجماعية، فكثير من مظاهر التهميش في المجتمعات ساهمت في ظهور الانهيار الأخلاقي -كما عبر عن ذلك كثير من الباحثين في علم الاجتماع-، ومن ثم كان لا بد لهذه المرجعية أن تُؤطَّر بأطر أخلاقية حتى تبتعد عن الاستبداد.
وهنا وجبت الإشارة إلى حديث نبوي شريف له صلة قوية بما ندندن حوله؛ أقصد حديث السفينة؛ الذي رواه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في كتاب الشركة من صحيحه: “باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه”، قال: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا“[1].
وهو حديث مليء بالإدراكات الأولية، والأنماط الفكرية، والمظاهر السلوكية، في مختلف العلاقات الإنسانية خصوصا الجمعية منها(بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها).
والحديث فيه إشارات قوية إلى القوانين السننية (أصغر خرق في السفينة يعني أوسع خرق) السارية في عالم الناس، وينبض بمقاصد كلية؛ تستحضر العواقب المصيرية لأفعال الناس؛ ذلك أن الأفعال تترتب عليها مآلات، والأفكار تترتب عليها مآلات؛ مما يحتم البحث في مآلات الكلام والأفعال، يقول الإمام الشاطبي المالكي: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام والإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعا إلى مصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه؛ وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية.
وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد؛ فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب جارٍ على مقصد الشريعة[2].
يتبع في العدد المقبل..
———————-
1. الحديث أخرجه البخاري كما مر في كتاب الشركة، 2493، وأخرجه أيضاً في كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات، 2686، بلفظ: “مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها…”، وأخرجه الترمذي في الفتن، 2173، وأحمد، 4/268، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 10/91 – 0/288، وفي شعب الإيمان، 7576- 6/91 – 92.
2. الموفقات، 3/194.
أرسل تعليق