الأسرة الناهضة بالحياة الإنسانية
الأمة الناهضة يبنيها أبناؤها وبناتها، وهم نتاج الأسرة، والأسرة هي الأساس المباشر لإقامة الحياة على النسق الأمثل، ومن هنا يتبين أن الأسرة هي نقطة المرتكز، والإسلام الذي تترسم الأسرة خطاه من شأنه أن يدفع بها إلى تحقيق البر والعدل للإنسانية جمعاء، والسماحة والرحمة وتحقيق التفاهم بين الشعوب على أساس وحدة الأصل الإنساني.
لذا فعلينا نحن الأسر المسلمة أن نجمع صفوفنا، ونوحد كلمتنا، ونقتبس من سيرة رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم النموذج الرفيع في القدوة الصالحة سعيا منا بقلوب وعقول مفتوحة، لتصحيح صورتنا كمسلمين مع أهلنا من أبناء ملتنا، ومع الآخرين بإقامة القسط والعدل؛ لأنه سبيل العزة والخير والفلاح، وصدق الله العظيم إذ يقول: “وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الاَرْضِ كَمَا اَسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي اِرْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا” [النور، 53].
وما لا شك فيه أننا نحيا في عصر تعصف فيه رياح تيارات تقتلع جذور القيم من قلوب الناس إلا من عصم ربك، لذلك فنحن في أمس الحاجة إلى التمحيص والتدقيق في اختيار من يصلح لمهمة الدعوة إلى الله، ممن يملكون الأدب الرفيع والدين والحسب والرأي اللبيب؛ لأنهم هم الذين يملكون المرآة الصافية التي تعكس الإسلام بالهدي الذي يقود إلى مراشد الأمور، بالعقل الموفور الواقف بأصحابه على الخيرات، من يوازن بين الواقع والحلول والآفاق، والدعوة أمانة والأمانة لا يِؤديها إلا مؤتمن.
والأسرة حصن الأجيال، ودفء الأمومة وعطف الأبوة وكرامة الإخوة، ومن هنا كان للأسرة أثر كبير في اكتساب الأخلاق والاستعداد الفكري والإبداع العقلي، وهي نبع لا يجف أبدا ومرتع الصبا ومأوى النفوس والأفئدة، وأسمى ما في الحياة من حب، في أحضان الأسرة يبنى الإنسان الكامل الذي يِؤهل للمشاركة في مرافق الحياة، بل هي الجسر الذي يحول الأماني والأحلام إلى واقع ملموس ومحسوس، على بساطها يتوافر الزخم الهائل والفيض الزاخر من العطاء الرابط الحاضر بالماضي باستشراف المستقبل وتنمية روح التعاون الإنساني، وتحديد الأهداف، حتى يكون كل عمل ذا قيمة يزاوج بين الأصالة والحداثة، والقدرة على الإنتاج السليم، والتمييز بين الأهداف والغايات، والتفاعل الكاشف لمكامن الإبداع في مجريات الحياة الواقعية ومذاقها الخاص وحكمتها الطيبة، قال تعالى: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ” [آل عمران، 104].
ومن ميدان الأسرة إلى الأمة والمجتمع الإنساني بما يشمل كل ميادين الحياة، والأسر كالأنهار مكونة من عدة تيارات وروافد لها قواعد للتجاذب والتنافر بين البشر؛ ولأنها أحجار الأساس لظهور الحياة، وأعضاء كل أسرة بمثابة المصابيح متعددة الأشكال متفاوتة الإنارة، وأعلى رأس مال الأسر المسلمة هم أبناؤها وبناتها، الذين طالما فكر أكثرهم فيما يرونه من أساليب الإقصاء والتهميش والاغتراب في أوطانهم التي أضحت في نظرهم طاردة تدفع بهم إلى الهجرة، وعندما تدفع الفاقة قطاعات من الشباب المسلمين بعيدا عن أعين الرقباء إلى براثن التنصير لقاء رغيف خبز وجرعة دواء، بينما تدفع التخمة ووفرة المال شريحة من المترفين والمترفات إلى حياة يتخلون هم فيها أيضا عن حقيقة الحياة الإسلامية، قال تعالى: “وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ” [الاَنعام، 20].
وإذا كنا نلح اليوم، ونحن نسعى على صفاء الرؤية وتحرير العقل المسلم من الغبش، فنحن لا نبتدع اختراعا غير مسبوق لتأكيد حضورنا في الساحة العالمية، لمواجهة كل دعاوي الافتراءات والاتهامات التي توجه إلينا، فحضورنا هو الفرصة النادرة لدرء هذه الافتراءات، حتى نظهر للآخرين في صورة أخرى مختلفة لإثبات وجودنا الحضاري والإنساني، ويا ليتنا نعمل بقوله تعالى: “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ” [الحشر، 9]، وهو الخلق الإسلامي السامق الفريد الذي لو تمسكنا به وأشعناه لمكنا للإسلام في نفوس أبنائنا وبناتنا الرفعة والمكان السامي ليتوارى من ساحتنا جميعا خلق الشح والأثرة والأنانية، هذه الآفة القاتلة للمروءة والشهامة.
وأنا أحذر أن نقع في المنطق القائل في الفرد المسلم أن يكون منه الغالي والرخيص، ولست أريد أن أكون كمن يؤذن في “كناريا” ويترك قريته بلا أذان، فالأسرة التي يرجى منها خير هي الدافعة لأفرادها لإعادة فتح الجسور بينها وبين بقية الأسر في عالمنا المعاصر، بما يصور الهموم والأحلام المشتركة، صحيح أن الهدف صعب التحقيق، والإنجاز الحق هو معيار وجودنا؛ لأن طموحنا هو بناء علاقة إنسانية لا شرقية ولا غربية، ووضع صيغة خاصة نابعة من تربة الإسلام تحقق معادلة بناء إنساني معاصر، يحفظ لكل شعوب العالم خصوصيتها وهويتها، وعالمنا الذي نعيشه هو عالم الضوء والكلمة والحركة للخروج من صمت واسع وراء القبور، وبما يحقق للبشرية الفضيلة والمعرفة والعلم والتقدم والحب والجمال الذي لا يذبل أبدا.
ومن الأسر من تسمو بأفرادها فتلامس بهم الثريا، ومنها من تنحط بهم فتدفنهم في التراب، ولكل سبب أو أسباب، وليست كل الأسر على حال سواء، وليسوا على مستوى واحد من الإدراك والفهم، ومن الأسر من تموت وهي على قيد الحياة، ومنها من تحيا وهي في عداد الأموات، والأسر المبدعة هي التي تفرض نفسها فرضا على المجتمعات، تعيش فيها وتحس مشاكلها وتعالج أمراضها، وبعض الأسر هي التي تحاول أن تكون شيئا وهي لا شيء، وبالرغم من الدعاية التي تثار حولها، وهناك بعض الأسر المظلومة التي حوربت في حياتها وطاردها الأعداء ولم يتركوها تأخذ طريقها إلى المجتمعات، خوفا من التأثير عليها وإيقاظها من غفلتها وسباتها، لكن أفكارها ستظل محفورة في وجدان الأحرار إلى أن تحين ساعة خروجها ليستفيد منها الناس.
وما أكثر الآلام والحسرات على واقع الأسر المسلمة، ولكن هذه الحسرات لا ينبغي أن تشغلنا عن الكشف عن الوجه القبيح الذي يعربد ويخطط لوقوع هذه المآسي على أسرنا، حتى يتسنى لها أن تعي دورها الكبير حتى تستحق الحياة وسط أدغال هذه الغابة الإنسانية التي لا تحد بحدود، مرددين معها قول الشاعر:
كبوت فلا لوم عليك ولا عتــب كذاك الجواد الحر لابد أن يكبو
ومن كانت العلياء غاية هـمــه فما ضره وهن ولا عاقه صعـب
والأسر المسلمة اليوم فيها من يستطيع خلق روافد أو إثراء روافد، ولكنها قلة لم تعبأ بها الكثرة ولم تقدرها حق قدرها، والإصلاح ممكن وليس مستحيلا، وممكن ولكنه صعب، وإذا كان اللسان ينطق والقلب يشعر، فاعلم أن هناك فكرا يدعو إلى مستقبل أفضل، إنه الأمل الأخضر تلتقي عنده الأسر المكافحة بآمالها، وهي تعاون الناس جميعا على الصمود حتى تمر العواصف، وتتغلب الحكمة وتعود الإنسانية إلى رشدها لتبني من جديد حصون السلام والتسامح الإنساني، لتمتد شجرة الإخاء الإنساني، وهي تحمل على جذعها الموحد فروعا وأوراقا تتنفس هواء الكرامة والمساواة، متطلعة إلى مزيد من النور، ضاربة بجذورها وحسها الإسلامي الإنساني في أرض الحياة، والمساواة بين الأجناس والألوان والألسنة.
وإن الخوف من المستقبل هو آفة العصر، وإن المستقبل لا يتفق مع الكم والكيف، ولا يخضع لقوانين ثابتة، ولا يفسر بالاستقراء والاستدلال؛ إنه الشيء الوحيد الذي يدفعنا للاستمرار في الحياة، فليس هناك حاجز ملموس يفصل بين مستقبل المنظور وغير المنظور، فما هو مستقبل فهو مطلق وليس ذا منظور قريب أو بعيد، ونحن بهذا نصل الماضي بالحاضر، وننفض الغبار عن القاعدة التاريخية التي سيقام عليها البناء في مستقبل يتراءى لي زاهرا بشذاه الفواح وعطره الزاكي، تتنسم البشرية عبيره، في جو الإسلام الطهور، وحضارة ربانية وارفة الظلال “أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَذِينَ اَتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّار” [الرعد، 36].
والسر وراء هذا أن هناك دافعا جبارا وراء كل أسرة مسلمة، دائما يجعلها تنجز أكثر، إنه الإيمان، الإيمان بخطورة ما تقوم به، والإيمان بإسلامها وإنسانيتها.
وأخيرا أخي القارئ الكريم، لابد أن تعلم أنه لا يمكن لأحد مهما أوتي من فصاحة وبيان، أن يبين لك ما هي الأسرة المسلمة على حقيقة ما تقوم به لوضع قاطرة الأخوة الإنسانية في مسارها الصحيح، إنه عبء أكثر بكثير مما تتصور وترى وتظن، ولا يمكنك أن تتصور عظمة الرسالة التي تحمل أثقالها، إلا إذا انخرطت مشاركا في هذا العمل الجبار، وصدق الله العظيم الذي يقول: “الَذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ” [الاَحزاب، 39]، ومع الأيام سترحل هذه الأسر لتلحق بالسابقين وتبقى أعمالها خالدة في الخالدين، وعلى الأسر التي تخلفها أن تواصل من حيث انتهت وأن تستمد قوة إيمانها التي من أجلها ناضلت وبهذا تطمئنها وهي في عالم الخلود.
والله المستعان.
أرسل تعليق