الأسرة المسلمة منجم معنوي ومادي عملي
في عالم حقق قفزات مذهلة في تطور الحياة البشرية وتقدمها إلى نطاق أرقى، وبشكل مذهل للقطاعات الاجتماعية والاقتصادية، التي تحركها العقول المثالية بالعلم والمعرفة والتقنية الجديدة المتكاملة، لدمج الحضارة الإنسانية التي تفوح منها رائحة الصبغة الابتكارية، دعما لتطلعات المجتمعات، وصياغة تحولات تحتضن الإبداع في كل الخدمات المتطورة، في التجارة والصناعة والزراعة، تماشيا مع روح العصر في اللحظة الفارقة، وتماهيا مع الحراك التجديدي المندرج ضمن مد حضاري، من أُناسٍ اجتهدوا فأصابوا وجه الحق، لتحقيق أمل وأحلام تطلعات العاملين انسجاما مع العصر الذي يعيشون فيه، بوسائل وأشكال الاتصال المتطورة، في مسيرة متجددة لفهم مرامي العولمة وأبعادها..
وكل أمة تحولت إلى سديم بشري أو كتل سلبية وخائفة ولا مبالية ومنعزلة، تبقى في مربع التخلف، معمقة الانسداد بلا أهداف واضحة، ولا أولويات محددة، فهي أمة تُهدم جسور التواصل بينها وبين الآخرين، وتوسع مساحة التقاطع والتجافي، وإطالة بؤسها القاسي فتخسر الماضي والحاضر، وتدفن مستقبلها في الفساد والإفساد، وتجاهل مطالب الأفراد والجماعات، وتعطيل روح الابتكار في الأجيال الصاعدة، وتكريس الانغلاق في الكوارث في بقع الظلام التي تتعاظم أكثر إيلاما وبشاعة وبتناقض رهيب، وهنا يجب أن نعترف أن الأمة في حاجة إلى من يأخذ بيدها نحو مستقبل مزدهر، لتأخذ دورها من جديد كجوهرة تتلألأ نورا بين مختلف الأمم والشعوب، ولتعتز من جديد بحاضرها الذي يغازل المستقبل الواعد.
بهذه الأسر نقدم للأجيال ما يُغري في الاقتداء بأولئك الأجداد الذين امتلكوا المعارف والعلوم والآداب، وقوة التفوق الحضاري المجسد للمعمار الفريد في جماله، كرمز لحضارة جناح الغرب الإسلامي حيث نقرأ مع كلمة النور والمحبة والسلام، مع أسلاف عظام جسدوا في الأرض مواقف الإسلام النبيلة التي تُقرب بني آدم في ذلك المحراب الذي أبدعه الإيمان بوحدة الله سبحانه.
والإسلام كسلوك يجسده معتنقوه بفهم صحيح قادر إن شاء الله أن يعيد المجد والعظمة لهذه الأسر برؤية واضحة لحياتها المتميزة، والمدهش أن الأسرة الصادقة مع نفسها والأجيال التي ترعاها، ورغم المعاناة تجد في نفسها القدرة الخارقة على كتم الآلام وتحمل الصعاب، دون أن يشعر المحيطون بها بتلك المعاناة، حفاظا على زهو الحياة في أعين الأجيال وقداستها؛ لأنها النعمة الجليلة، فتكون بذلك أنموذجا مثاليا يُحتدى به في مجال التربية الصالحة.
وعلى الرغم من الحسابات المتشائمة في فهم الجذور يضع في اعتبارنا ضرورة التأمل الدقيق في أعمال هذه الأسر النابهة، لإدراك الخصائص التي لابد منها لنتخطى أزمة مستنقع السخرية التي تطاردنا، كأننا نحن الذين يتحملون وصمة فشل الإنسانية فيما تعانيه من أزمات وتخلف، وما تشهده من أوضاع متردية وعجز وخيبة أمل، في عدم فرز وتمييز ما هو حق وما هو باطل في اتجاه خاطئ ولا أقول باطل، إذ على الأسر المسلمة أن تتلمس الوسائل التي تُريحها من هذه المتاعب والأثقال التي تهد كاهلها، فالإنسانية في حاجة إلى الدين الذي تبلغه الصفوة المؤمنة الثابتة في السراء والضراء، وتَفَهُم الدين يتطلب سعيا متواصلا وعملا دؤوبا مع المعرفة بحقائق نواميس الكون المادي؛ لأن الله تعالى يقول: “ومن اَراد الاَخرة وسعى لها سعيها وهو مومن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نُمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا” [الاِسراء، 19-20].
والإضافة والتبديل والتعميق هي مجرد خطوات على الطريق الطويل، وهو إطلالة متأنية على واقعنا لفك رموز وألغاز هذا العالم المتصارع، وهذه الاجتهادات المتعارضة، كنزيف فكري يؤدي إلى التنافر، بدَل أن يُقرب القلوب لممارسة القضايا المطروحة، والمعضلة التي لم نَعثر لها على تفسير منهجي متكامل، وإذا لم نعرف ذاتنا، وأن تكون لنا الرغبة القوية للانخراط في الإيقاع الحضاري والمعرفي المعاصر، وبمقدورنا تشخيص الأزمة الإنسانية المعاصرة بوسائل فعالة ومُجدية، لكن بشروط تفتح الأبواب للمشاركة الفعالة، بما يبني جسورا التواصل تحت الفهم الحي في مسيرة الإنسان نحو التقدم الفكري الصاعد، بما يحفظ الود وتصان به مشاعر الجميع من تعاون على الخير “ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير” [البقرة، 235].
فالأسرة المسلمة بإمكانها أن توجه أنظار المجتمع الإنساني لتجميع الروافد الإنسانية بسعة صدر، ولتقريب شقة الخلاف بما يشبه الاتفاق والتلاقي، وهذا هو السبيل للتعاون بما يحمل في طياته من بوارق الأمل لخروج المسلمين من الاغتراب والعزلة، وحتى لا نَضيع في الكون مرة ثانية، والفوز متروك لله سبحانه يدبر أمره كيف يشاء، وعملية كسب العالم الإنساني يحتاج إلى المشاركة والإسهام في الابتكار بما نضعه مع الآخرين لإكمال الصورة بملامحها، ومعالجتها بما هو أقدر وأنجع، وبما هو أرقى وأيسر، ويكون الاتصال بالآخر أغنى وأنفع.
والآن هذا بعض الحق، فالبشرية تسير مع بعضها البعض على أرض متكاملة، فعلينا أمام الواقع المر أن نمسك بالمبادرة في أيدينا لتعديل ما أصابنا من جديد، مما يُمهد الطريق أمام زوال هذه الأحقاد، بتعدد التعاون ليثمر الإسلام ما يسمى الأمل والعمل حتى لا نعيش في فراغ كأمة متفاعلة مع المسيرة البشرية، غير عابئين بمن يحاول صرفنا عن هدفنا، وعوض هذا الجنوح، وما يعترينا من القصور في البناء أو العجز عن متابعة المسير، وعلى نقيض ما تقتضيه حكمة تدبير الحياة، ومقومات الفطرة الإنسانية، وعلى عكس مما هو من لوازمها، بفكر متعنصر ضال والهبوط السحيق عن المستوى الإنساني الذي عناه القرآن الكريم بقوله تعالى: “أخلد إلى الاَرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث اَو تتركه يلهث” [الاَعراف، 176].
الأسرة المسلمة منجم وكنز معنوي مادي وعملي، للأجيال التي تمثل الإنسان بما تتحقق به إنسانيته، مفهوما وغاية، وبما ينهض بالمعراج إلى الكمال للحقائق الكبرى على سطح الأرض، وتجاوز كل مطبات الجدل العقيم، بحثا عن هويتنا وعن طريق ماتح للحياة لمزج الحلم بالواقع، والحكمة بالمعرفة والعلم، فلا غرابة إذا رأينا الأسر الناجحة تتحرك بسرعة لتجتث أصول الفقر والتخلف وتُعرف الأجيال بما يدور في العالم الكبير ومن حولهم، وللتعامل مع أسلوب الحياة الحديثة، وإثبات وجودهم بنجاح في أي موقع من مواقع العمل في شتى ميادين الحياة، وتعميق الاتجاه الديني بالتوعية والتثقيف، الذي يُركز في الناس أن الإسلام هو خير رسالة صالحة لكل زمان ومكان، وهي كفيلة بصد التيارات الهدامة، عوض الانسحاب إلى الزاوية الضيقة والانسياق وراء المواقف الخاطئة.
أرسل تعليق