الأثر الصوفي في مجال الحديث وعلومه – المظاهر والتجليات
- ذ. مصطفى بوزغيبة
- باحث بمركز الإمام الجنيد
الزاوية الفاسية
4. الشيخ عبد القادر بن علي الفاسي
هو أبو محمد عبد القادر بن علي بن الشيخ يوسف الفاسي، ولد بالقصر الكبير زوال يوم الاثنين ثاني رمضان سنة سبع وألف، أخذ العلم عن والده أولا، ثم رحل إلى فاس سنة خمس وعشرين وألف، وعمره ثمانية عشر سنة، فأخذ عن عم أبيه العارف أبي زيد عبد الرحمن بن محمد الفاسي، علوما شتى من تفسير وحديث وفقه ولغة وغيرها حتى “حصَّل علما غزيرا.. وبعُد صيته في جميع الآفاق، وسارت بحمل حديثه الركبان والرفاق، وتنافس في الرواية والأخذ عنه العلماء الكبار، وأعمل الناس الرحلة إليه من بعيد الأقطار”[1].
كان الشيخ عبد القادر علما من الأعلام المبرزين في ساحة العلم، حافظا مفسرا ومدققا، وهو من بين الشيوخ الثلاثة الذين أحيوا العلم بالمغرب، وفي ذلك يقول القادري: “لولا ثلاثة لانقطع العلم من المغرب في القرن الحادي عشر لكثرة الفتن التي ظهرت فيه، وهم: سيدي محمد بن أبي بكر في ملوية من بلاد فزاز، وسيدي محمد بن ناصر في الصحراء، وسيدي عبد القادر الفاسي بفاس”[2].
انتهت إليه رئاسة العلم والفتيا في المغرب، يقصده الناس لحل معضلات مسائلهم ونوازلهم، قال عنه صاحب نشر المثاني: “وكان ملجأ الخاصة والعامة في عويص مسائلهم الدينية، تنفصل المجالس عن قوله”[3]، حفيده وتلميذه العلامة أبو محمد الطيب بن الإمام محمد في فهرسته: “هو الفقيه الإمام المحدث الحافظ المفسر الأصولي المتكلم النحوي اللغوي المنطقي الأديب الجدلي الحكيم النظار الصوفي فريد الدهر، ووحيد العصر، جامع أشتات فنون العلوم، والمبرز في سائر أنواع المعقول والمفهوم”[4].
وقال عنه الحجوي الثعالبي الفاسي: “انتهت إليه رئاسة الفتوى بالديار المغربية مع نزاهة وتمسك بالسنة، وبعد الصيت إلى شموخ المجد في العلم وتأثل المكانة فيه”[5]. وزاد الكتاني في فهرسه: “فلا قاض ولا محكم ولا مُفت ولا راوٍ إلا وهو يُنسب إليه”[6].
أحيى الله به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان كثير التدريس لكتب الحديث وبخاصة صحيح البخاري ومسلم، بل دعاه حبه إلى نسخ صحيح البخاري ومسلم نسخا في غاية الجودة والدقة والإتقان، ففي تحفة الأكابر: “وكان أكثر ما يكتب من كتب السنة صحيح البخاري ومسلم مع إدمان قراءتهما ونسخهما، لا يغرب عنه منهما حرف ولا حركة ولا راو ولا ما يتعلق بهما من اللغة وغيرهما، وكان يدمن قراءتهما بزاويته، ويبتدئ البخاري بزاوية الشيخ سيدي محمد بن عبد الله نصف جمادى الأولى كل عام، ويختمه في آخر رمضان ليلة القدر، وكان له استحضار عظيم للحديث لا سيما ما يتعلق بالصحيحين”[7].
كما كان له عناية كبيرة بالتفسير، ومتحققا بهما، وكان يرى أنهما المصدرين الأساسيين اللَّذين يجب الاعتناء بهما وعدم إهمالهما، وذلك أن أغلب الناس جنحوا إلى تدريس الفقه وأهملوا أصوله ومصادره الأساسية، وهما القرآن والسنة، حتى عفت رسومهما، وانمحت آثارهما فلا تكاد تجد من يهتم لشأنهما، قال الشيخ أبو محمد عبد السلام بن الخياط القادري الفاسي في الشيخ عبد القادر الفاسي: “إنه اعتنى بتدريس علوم الحديث والمغازي والسير؛ فإن أهل فاس كانوا اشتغلوا بطلب علم الفقه والعلوم العقلية وتركوا علوم الحديث فاعتنى المترجم بها حتى أحياها”[8]، كما كان شديدا في الحق لا يخاف في الله لومة لائم، داعيا إلى التمسك والاعتصام بالسنة النبوية وعدم الزيغ والانحراف عنها، ففي فهرس حفيده أوصاف تدل على ما ذكرناه وهي قوله فيه: “الداعي إلى الله في السر والإعلان، والمناضل عن الحنيفية السمحاء بالقلم واللسان، محيي سنة النبي عليه السلام، وقامع بدعة أهل الزيغ الئام..”[9]. كيف لا وهو ضمن السلسلة الذهبية في الحديث؟! ففي الفهرس: “قال القادري في (مطلع الإشراق) بعد أن ذكر أن رياسة الحديث انتهت في فاس لسيدي رضوان الجنوي ثم لتلميذه القصار ثم لتلميذه العارف الفاسي ثم لتلميذه المترجم قال: فكان صاحب وقته فيه، فهي من سيدي رضوان إليه سلسلة الذهب والتبريز في علم الحديث رواية محدث إمام عن محدث إمام”[10].
توفي رحمه الله ظهر يوم الأربعاء التاسع من رمضان، سنة إحدى وتسعين وألف، ودفن في زاويته بالقلقلين بفاس، وكانت جنازته مشهودة حضرها الخاص والعام، قال صاحب نشر المثاني: “واحتفل الناس بجنازته ورثي بقصائد كثيرة”[11].
يتبع في العدد المقبل..
————————————-
1. نشر المثاني ضمن كتاب موسوعة أعلام المغرب، 4/1636.
2. نفس المصدر، 4/1640.
3. نفس المصدر، 4/1637.
4. نفس المصدر، 4/1636.
5. الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي، المكتبة العصرية، ط1، 2006م/1427هـ، 2/612.
6. فهرس الفهارس، 2/764.
7. فهرس الفهارس، 2/766.
8. فهرس الفهارس، 2/767.
9. نشر المثاني ضمن كتاب موسوعة أعلام المغرب، 4/1636.
10. فهرس الفهارس، 2/764.
11. نشر المثاني، 4/1637.
أرسل تعليق