Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

..الأثر الصوفي في مجال الحديث

الزاوية الفاسية

تعتبر الزاوية الفاسية من أقدم الزوايا والمدارس العلمية بالمغرب، التي أشرقت شمس المغرب بالعلم والمعرفة بجانب القرويين، منذ تأسيسها على يد الشيخ أبي المحاسن يوسف الفاسي إلى يومنا هذا، والذي جمع بين علمي الشريعة والحقيقة، حيث جمع أشتات علوم الخبر، ومهد الطريق لبزوغ علم الأثر، وشيد مباني المنقول والمعقول، بعدما انهد منارها، وتضعضعت أركانها، وانمحت رسومها، وجعل من هذه المدرسة قبلة متميزة للطلبة والعلماء، يقول العلامة محمد المختار السوسي عن الأسرة الكرسيفية والأسرة الفاسية: “ولم أعرف الآن في المغرب أسرة تسلسل فيها العلم أبا عن جد زهاء ألف سنة إلا هذه، والأسرة الفاسية بفاس.. آواخر القرن الخامس وهذه مزية انفردت بها الأسرتان وحدهما[1].

وكان لأساتذة الزاوية الفاسية الفضل الكبير في إحياء علم الحديث وخاصة الصحيحين حفظا ومدارسة وتأليفا، وقد تخرج على أيديهم كبار العلماء والصالحين، وأول متصدر لقائمة العلماء البارزين في الزاوية هو الشيخ أبو المحاسن يوسف الفاسي مؤسس الزاوية الفاسية وأستاذها الأول، والشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الفاسي مؤسس زاوية القلقليين، والشيخ عبد القادر بن أبي المحاسن الفاسي حفيد الشيخ المؤسس، والحافظ الكبير الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي المحاسن، والشيخ عبد القادر بن علي بن يوسف الفاسي.

1. الشيخ أبو المحاسن يوسف الفاسي[2]

هو الشيخ يوسف بن محمد الفاسي أبو المحاسن، ولد ليلة الخميس تسع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، سنة سبع وثلاثين وتسعمائة، بالقصر الكبير، أخذ العلم على يد مجموعة من الشيوخ منهم الشيخ أبو الحسن علي العربي، والشيخ عبد الرحمن الخياري، والشيخ عبد الوهاب الزقاق، والشيخ عبد الرحمن الدكالي، ولكن أبرز الشيوخ الذين استفاد منهم ظاهرا وباطنا هو الشيخ عبد الرحمن بن عياد المجذوب.

لما فتح الله عليه من العلوم والفنون، أراد أهل بلده أن يقيم عندهم معززا مكرما، يبث فيهم العلم والصلاح، إلا أنه وبعد جهد جهيد، انتقل إلى فاس لتعليم العلم ونشره في صفوف الناس، ثم بعد رجوعه من فاس إلى بلده، قصد الزيارة، كاد أهل القصر يجبرونه على المُكوث عندهم وترك السكنى في فاس، لولا تدخل السلطان وما يليه من العلماء، الذين أبوا مفارقته، وأبانوا عن حرصهم الشديد، وتعلقهم المتين بالشيخ، الذي أحيا الله به العلوم، وتصدى لتعليم وتدريس الفنون، وهذا بحد ذاته يدل على إجماعهم على إمامته وتقدمه في شتى العلوم، ويحكي لنا صاحب مرآة المحاسن هذا الحدث بقوله: “تطارح عليه أهل القصر بشيوخهم وصبيانهم، وخاصتهم وعامتهم في الرجوع إليهم، وانتهى الخبر عن ذلك إلى أهل فاس، فعجلوا إليهم طائفة منهم، نائبة عن جميعهم، ومتحملة كتب السلطان والمشيخة والأعيان، وخاطبوهم في ذلك بما قطع أطماعهم”[3].

ومن بين الكتب التي أرسلها شيوخ فاس إلى أهل القصر، يلمونهم على محاولة الاستئثار بالشيخ ومنعه من الرجوع إلى فاس، كتاب القاضي الحُميدي حافظ المذهب، وقاضي الجماعة، وخطيب الخلافة، نورد منه مقتطفا، وهو قوله: “إلى كافة أهل القصر وخاصتهم؛ شرفاء وفقهاء وعامة.. فقد بلغنا ما فعلتم مع السيد المعظم، العالم العَلَم، الفقيه البركة. سيدي يوسف بن محمد.. فهذا أمر لا يجمل بكم، ولا نرتضيه أن يُسمع عنكم؛ لأنه الآن قاطن بين أظهرنا، ومن جملتنا، ومتصد لتعليم العلم، وقد دعت الحاجة إليه في هذه الحاضرة التي هي أم القرى، ومنبع العلم، وقد اختاره الله لها، وأزعجه بفضله إليها، فلا نسمح برحيله أصلا، ولا يخطر لكم ببال، ولا يمكن أن يكون هذا الوجه بحال، فلا تتعرضوا له..[4]. وهذا يدل على المكانة الكبيرة للشيخ، ومنزلته العظيمة، لدى الخاص والعام، حتى كادوا يقتتلون عليه.

وكان دَيْدنُ الشيخ بعد صلاة العصر، قراءة صحيح البخاري أو صحيح مسلم، يقرؤه عليه ولده الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي المحاسن، وذلك في القرويين، عند الحائط الجنوبي المغربي من البهو الثاني من المسجد[5].

وأما في شهر رمضان فكان يلازم قراءة صحيح البخاري، قراءة لا تكاد  تخلو من الدرر والفوائد، مستحضرا لكتب كبار العلماء والمحدثين، كالمشارق للقاضي عياض، وكتاب الغريبين للهروي، وكتاب غريب الحديث لابن الجوزي، كما كان يستحضر أثناء شرحه للبخاري كتاب فتح الباري لابن حجر، وشرح ابن بطال، وابن التين الصفاقسي، وأما أثناء شرحه للصحيح مسلم فكان يستعين بالمعلم للإمام المازري، والإكمال للقاضي عياض، وشرح النووي والأُبي، وكان مجلسه حافلا بأعيان العلماء والفضلاء والطلبة، “وكان مجلسا مقصودا كثير الفوائد، لا نظير له إذ ذاك فيما علمنا ببلاد المغرب”[6].

وكان لهذا المنهج الذي سلكه الشيخ أبو المحاسن يوسف الفاسي، أثر كبير في تخريج عدد كبير من العلماء المتمكنين، فقد ذكر الحضيكي[7]. أن الشيخ تخرج على يديه كثير من الخلق، وجلهم على سنن العلماء المتقدمين، من اعتمادهم على أمهات الكتب، والمصادر الأصلية في التعليم والتدريس، وعدم اقتصارهم على المختصرات.

يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى..

——————————————

1. المعسول، 17/43.

2. ينظر ترجمته في مرآة المحاسن، وابتهاج القلوب بخبر الشيخ أبي المحاسن وشيخه المجذوب، وروضة المحاسن الزاهية بمآثر الشيخ أبي المحاسن، وطبقات الحضيكي، 2/600.

3. مرآة المحاسن، 152.

4. نفسه، 152.

5. مرآة المحاسن، 169.

6. نفسه، 169.

7. طبقات الحضيكي، 2/601.

أرسل تعليق