..الأثر الصوفي في مجال الحديث
- ذ. مصطفى بوزغيبة
- باحث بمركز الإمام الجنيد
عنايتهم بالحديث النبوي الشريف
كان للزوايا وشيوخ التصوف عناية تامة بالسنة النبوية الشريفة تدريسا ومدارسة، وتأليفا، وتحققا، على المستوى السلوكي والذوقي والوجداني.. وكان لهم الأثر البالغ، والسعد الفاخر في نهضة هذا العلم وانتشاره، في الوقت الذي يعرف فيه أفولا، ومن نماذج الزوايا نذكر الزاوية الدلائية، والفاسية، والعياشية، والناصرية، والكتانية، والصديقية.
1- الزاوية الدلائية
تعتبر الزاوية الدلائية مدرسة صوفية ذات إشعاع علمي كبير، لها دور تاريخي مميز في الحفاظ على العلوم وخاصة علم الحديث، في الوقت الذي يمر فيه المغرب في أزمات ونكبات جد حرجة، والتي كان لها انعكاس على المجال الفكري الذي تضعضع، فهؤلاء الشيوخ لهم دور كبير في حمل لواء العلم والعمل، وعملوا على إحيائه ونشره، وفي هذا الصدد يقول أبو محمد عبد الودود بن عمر التازي في “نزهة الأخيار” عن الدلائيين: “هم أحيوا العلم وأظهروه بعد أن كان بالمغرب دَرَسَ وَضَاَع، فصار غيرهم إن ذُكر بفاس إنما يُذكر بعدهم بحسب الإتباع“[1].
وخلفه أبناؤه من بعده، فقاموا أحسن القيام، وساروا على نهجه وآثاره حتى انتشر ذكر الزاوية، في الآفاق، واكتسبت شهرة كبيرة، جعلتها معهدا يقصده العلماء والطلاب، بعد أن “تعطلت الدروس أو كادت في فاس ومراكش وسائر الحواضر، وكانت الدلاء المنطقة الآمنة التي يأوي إليها العلماء والطلبة من مختلف أنحاء البلاد فينالون من التعظيم والإكرام ما يُحبب إليهم المُقام فيها“[2]، حيث بلغ معمري المدرسة ألف وأربعمائة، مما يدل على شهرتها الفائقة وقوة جاذبيتها، وقد رصد شيوخ الزاوية الأموال الطائلة في التكفل بحاجيات الطلبة من إعداد الطعام، وصرف المرتبات للشيوخ الذين يُدرّسون الطلبة، وغيرها من المستلزمات التي تجعل الطالب يُقبل بكليته على الدراسة، فقد حكت لنا كتب التراجم عن كرم الشيخ أبي بكر بن محمد ابن سعيد الدلائي ما لا يتخيله البال، “فكان -رضي الله عنه- كثير الإطعام بالأنواع المختلفة من الطعام، أمرا خارجا عن الوصف، مباينا للعادة والإلف، فكانت مراجله دائما تغلي، وطباخه لم يزل يفرغ ويملي:
في جِفَان كالجَوَاَبِــــي وقــُــــــدُور رَاسـيــــات
هكـــذا يفعـــل دأبــــــا بالوُفُــودِ الــــزائــــــرات
بل، كان يطحن كل يوم خمسا وعشرين صحفة[3]، من القمح مع خمسة وعشرين تِليِّسا[4]، ثم كان يطعم كل إنسان تارة بما اشتهاه في نفسه، وتارة بما يناسبه مع أبناء جنسه، فليس الحضري عنده كالبدوي، ولا الضعيف كالقوي[5].
وأما في عهد ابنه محمد بن أبي بكر الدلائي فكان يُطعم في سنة من سني الغلاء، سبعة آلاف من الفقراء كل يوم، زيادة على الواردين عليه والمقيمين عنده من طلبة العلم وغيرهم[6]، وأما السمن فاتخذ له ينابع ينصب لها من قوادس جالبة له من قدور ونحاس كبار مُعداة لذلك[7].
وتخرج منها عدد كبير من العلماء منهم اليوسي، والمقري، والعياشي، وابن عاشر وغيرهم كثير.
يتبع في العدد المقبل
——————————————–
1. فهرس الفهارس: 1/394-395.
2. معلمة المغرب: 12/4066
3. “الصَّحفة“: كالقصعة، وقال ابن سيده: شبه قصعة مُسلَنطِحَة عريضة وهي تشبع الخمسة ونحوهم، والجمع صحاف. وفي التنزيل: “يُطاف عليهم بصحاف من ذهب“، لسان العرب، لابن منظور، حرف الفاء، فصل الصاد المهملة، 9/223.
4. “التليسة“: وعاء يُسّوى من الخوص شبه قفة، وهي شبه العيبة التي تكون عند القصّارين”، تاج العروس من جواهر القاموس، للزبيدي، باب السين، فصل التاء الفوقية مع السين، المجلد الثامن، 15/257.
5. البدور الضاوية:1/54.
6. الزاوية الدلائية: 49.
7. صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر، لمحمد بن الحاج الإفراني، 137.
أرسل تعليق