Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

ابن عيشون الشراط (2/2)

لا تخفى الأهمية الكبرى لكتب التراجم والمناقب في مجال التأريخ والاجتماع؛ لأنها تغني التاريخ العام، كما تكمل ما يرد في كتب الإخباريين من أخبار؛ وهي مصدر لما تحتوي عليه من تراجم مرتبطة بالحركة العلمية والفكرية والعمرانية، كما أن ما تتضمنه أحيانا من استطرادات تفيد في توضيح وتصحيح عدد من الحقائق التاريخية…

وقد أشار الكتاني في كتابه “سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من الصلحاء والعلماء بفاس” إلى أسماء عدد من هذه المؤلفات التي ما زال بعضها مفقودا، منها ما اهتم بمناقب أشخاص أو طوائف معينة، ومنها ما اهتم بأخبار علماء أو بيوت خاصة الشرفاء. ويصنف كتاب “الروض” ضمن هذه المؤلفات لعناية مؤلفه بمناقب مجموعة من أولياء وصلحاء مدينة فاس.

أما عن مصادر ابن عيشون الشراط  في كتابه؛ فقد اعتمد على مصادر مكتوبة كان معاصرا لبعضها، وأهم أنواع هذه المصادر: كتب التراجم والمناقب والطوائف؛ كتب تهتم بتاريخ الدول والسلالات؛ كتب التصوف؛ ومؤلفات فقهية؛ وفهارس؛ ووثائق اطلع عليها المؤلف ولم يذكر أسماءها. يتعلق الأمر بسيل من المعلومات متعددة الاختصاصات: التاريخ والأدب والمناقب والتصوف والسير، بالإضافة إلى المعلومات الجغرافية والمجالية الغزيرة التي يزخر بها كتاب الروض؛ ولطالما أكدت بان كتب الفهارس والتراجم بيانات عمرانية لم يستثمر منها إلا قليل القليل.. ولو عقد العزم على القيام بذلك أكاديميا لتغير وجه التأريخ العلمي والاجتماعي والعمراني بالمغرب..

اعتمد ابن عيشون الشراط على كثير من الروايات الشفوية، سواء في المرحلة التي عاصرها أو التي لم يعاصرها، ومعظم رواته لا تعرف صلته بهم، إذ لا يذكر أسماءهم ولكنه يصرح بأنهم ثقات كقوله: “وحدثني بعض الثقات…” أو “… وهكذا أخبرني بهذه الترجمة بعض الفضلاء الثقات”… وبالرغم من هذه الثقة التي كان يضعها في الرواة؛ فإنه مع ذلك كان حريصا على تصحيح المعلومات عند تدوينها، ومن ذلك استعماله أكثر من مرة لكلمة “صح” كقوله مثلا”… هذا ما خلص إلي وصح عندي”.

وتفيدنا الفاضلة زهراء النظام، محققة كتاب الروض، أن الرواية الشفوية  شكلت المصدر الأساسي في الذيل المسمى “التنبيه” بحيث أن المؤلف اعتمد في معظم التراجم على ما جمعه من أخبار عن طريق الرواة وأثبتها في الكتاب دون ذكر مصادرها..

أما من حيث محتوى “الروض”، فقد تناول ابن عيشون تراجم ومناقب مجموعة من صلحاء فاس، واعتمد في عمله على ما توافر لديه من مصادر وعلى ما جمع من أخبار، وأشار لذلك في مقدمة الكتاب بقوله: “قد تحرك مني العزم الساكن لجمع تقييد أذكر فيه من وقفت على تعريفه من الأولياء الكائنين بقاعدة المغرب، مدينة فاس”. ولقد انتهى من تأليفه سنة 1099 / 1688.

وبنفس إبداعي صنف ابن عيشون المترجمين الذين ترجم لهم في الكتاب بحسب مدافنهم داخل الأبواب أو خارجها، وتتبع أحيانا مدافنهم داخل الحومات والروضات، ثم اتبع ترتيبا معينا داخل التراجم حيث يقدم الشخص المترجم له بكلمة” منهم” ثم يذكر بعد كنيته اسمه ونسبه ولقبه ومدفنه، ثم يذكر صاحب المصدر أو المرجع الذي اعتمد عليه، ثم يدرج ترجمة الشخص، وعند الانتهاء من استعمال المصدر أو المرجع يشير إلى ذلك بكلمة انتهى ويكرر أحيانا ذكر اسم المصدر أو صاحبه وتأتي سنة الميلاد غالبا في بداية الترجمة أما سنة الوفاة، فإنها تأتي في وسط الترجمة أو نهايتها، وأحيانا تتنوع المصادر داخل الترجمة، أما سند المترجم له، فإنه يأتي في النهاية (زهراء النظام، مقدمة كتاب “الروض”، 1997).

وتجدر الإشارة إلى أن سيدي محمد بن جعفر الكتاني استفاد كثيرا من كتاب “الروض”، إذ ترجم هو الآخر للعلماء والصلحاء آخذا بعين الاعتبار التوطين الجغرافي والمجالي، مما جعل قراءة كتابه بمثابة تجوال ممتع مفيد في دروب وأزقة محروسة فاس..

وقد ألحق ابن عيشون بكتاب “الروض” ذيلا ترجم فيه لمجموعة ممن لم ترد تراجمهم في “الروض” قال في مقدمته: “إني كنت قد وضعت تأليفا في التعريف بالصالحين من أهل فاس سميته “الروض العطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس” اقتصرت فيه غالبا على من له ترجمة في كتاب ووقع به تعريف، ثم نظرت فوجدت كثيرا من المقابر والروضات ذكورا عند الناس من أهل فاس إما عموما وإما خصوصا أهل محلته بالخير والفضل، مشهورا لديهم متميزا عن غيرهم من المقابر، مشارا إليهم منهم بالتعظيم والتوقير… ولما رأيت هذا، انتدبت لوضع تقييد أذيل به التّأليف المذكور أذك فيه جميع من عرفته ممن يشار إليه ويتميز عن غيره، وأسردهم سردا بذكر أسمائهم ومواقعهم..” .

نستفيد من كتاب “الروض” معطيات متعلقة بتاريخ المغرب عموما وتاريخ مدينة فاس خصوصا؛ وقد جمع فيه المؤلف تراجم مجموعة من الصلحاء ممن عاشوا بين القرن 2/8 والقرن 11/17، ومات أغلبهم خلال القرنين 16 و 17؛ فجاءت فوائده التاريخية متنوعة نذكر منها: على مستوى الأحداث الطبيعية: يحتوي الكتاب على تواريخ وأخبار حول بعض الكوارث الطبيعية التي شهدها المغرب في بعض الفترات، مثل الزلازل والأوبئة والمجاعات والفيضانات، نذكر منها مجاعة سنة 673هـ / 1270 وزلزال سنة 1033هـ/ 1623 وغلاء سنة 1072 هـ/ 1661.

وعلى مستوى الأحداث السياسية معلومات مفيدة حول حصار جوهر لمدينة فاس سنة 349هـ؛ وحصار يعقوب بن عبد الحق المريني لتلمسان سنة 698هـ، والنزاعات المستمرة التي كانت بين مرين وبني عبد الواد “آل يغمراسن”؛ وأحداث معركة وادي المخازن؛ والصراعات التي عاشتها مدينة فاس مع عبد الله بن الشيخ المامون ومناصريه من عرب شراكة وما نتج عن ذلك من اضطرابات داخل المدينة؛ ثورة أهل فاس على المولى إسماعيل بعد توليته سنة 1083هـ.

أما على مستوى الحياة الاجتماعية، فيتضمن “الروض” معلومات حول بعض العادات الاجتماعية والتقاليد التي كانت معروفة في المغرب والتي ما زال بعضها موجودا مثل بعض العادات المتبعة في الزواج أو عند الوفاة وتوجه الحجاج إلى بيت الله الحرام وتأسيس ما يسمى ب ” ركب الحجاج” ، وزيارة الأضرحة، وبعض الأطعمة مثل الكسكس والثريد، وبعض الألبسة مثل المئزر والطاقية والدراعية، وبعض الفرش مثل الحصير واللحاف وغيرها. ولا تخفى الأهمية الأنثربولوجية لمثل هذه المعلومات القيمة؛ إنها بيانات حول واقع الحال، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وإنتاجه للخبرات الكونية، وعلاقته ببيئته المحلية، وقضايا الصحة الجسدية والنفسية…

يعتبر كتاب ابن عيشون مصدرا لتاريخ مدينة فاس، فبالإضافة على أهمية الكتاب لجوانب مختلفة من تاريخ المغرب بشكل عام وأهميته ككتاب تراجم، فهو يعد أيضا مصدرا ثمينا لتاريخ مدينة فاس، فالتراجم التي اعتمد المؤلف في جمعها على مصادر متنوعة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، تضمنت ذكر أحداث سياسية ومعلومات حول جوانب اقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية وعمرانية تهتم بمدينة فاس.

وقد جهدت الأستاذة زهراء النظام في تحقيقها لكتاب “الروض” في استخلاص الفوائد التاريخية والعمرانية المتعلقة بمحروسة فاس أجملها فيما يلي:

في الجانب السياسي نذكر من هذه الأحداث على الخصوص الصعوبات التي واجهتها المدينة أثناء فترة حكم عبد الله بن الشيخ المامون السعدي، والصراعات التي شهدتها والتي شارك فيها إلى جانب الثوار من أهل فاس عدد من القبائل المجاورة التي كانت تستغل فترات الفوضى للهجوم على المدينة، وأحداث أخرى عاشتها المدينة خلال القرن 17 م أثناء صراع سكان المدينة مع المولى الرشيد الذي قام في إطار محاولاته الأولى لتثبيت أقدامه وتمهيد المناطق المغربية بمحاصرة المدينة سنة 1076 هـ / 1665 لإخضاعها، ثم قام بعد دخولها بقتل عدد من الثوار من أمثال أبي بد الله الدريدي وابن صالح الليريني اللذين حاولا الاستقلال بحكم المدينة بعد ضعف نفوذ الدلائيين بها.

أما الجانب الاقتصادي: فيعتبر كتاب “الروض” من المصادر الأساسية لتاريخ المدينة الاقتصادي، وذلك لاحتوائه على معلومات تتعلق بأهم الأنشطة الحرفية لمدينة فاس، وأسماء لبعض المصنوعات، والمواد التي كانت تستعمل في صنعها، وبمختلف المنشآت الصناعية والتجارية المنتشرة في المدينة، من فنادق وأسواق وطاحونا ومعاصر وغيرها. يطلعنا الكتاب كذلك على التنظيم الاقتصادي الذي ساد فيها والذي كان يعتمد على تركز الصناعة في يد حرفيين مهرة يتوزعون داخل أحياء حرفية تستمد أسماءها من أنواع الحرف التي توجد بها، وقد ذكر منها بالكتاب مثل حي الشرابليين والدباغين والشراطين والزياتين وغيرها. كما يطلعنا على وجود نظام طائفي، وهو نظام ينضوي تحته أفراد الطائفة الحرفية الواحدة لضمان تكتلهم وحماية صناعتهم؛ ويطلعنا الكتاب كذلك على الدور الذي كان يقوم به كل من الأمين والمحتسب لحماية هذا التنظيم وضمان استمراره، وعلى نوع المعاملات التجارية ووسائلها من عملات ومكاييل وأوزان وغيرها.

أما الجانب الاجتماعي: فيعطينا الكتاب صورة عن الحياة الاجتماعية في مدينة فاس: نظم عيش السكان وكل ما يتعلق بسلوكهم وعاداتهم؛ وعن الفئات التي كان يتكون منها المجتمع الفاسي، والدور التاريخي لبعض هذه الفئات مثل فئة الشرفاء والعلماء، واهتم على الخصوص بالزوايا وبدورها العلمي والديني والسياسي والعمراني..

كما يجود الكتاب بمعلومات عن التنظيم الاجتماعي الذي ساد بالمدينة، وقد تجلى هذا التنظيم على مستوى الأحياء السكنية بها، فإلى جانب الأحياء الكبرى التي كانت تتكون منها المدينة مثل الأندلسيين واللمطيين والعدوة، وهي أحياء اكتمل تكوينها خلال القرن السابع عشر مع وصول آخر الموجات من المهاجرين الأندلسيين، كانت فاس تضم مجموعة من الأحياء الصغرى التي تعد امتدادا لهذه الأحياء الكبرى، ونماذج مصغرة لها من حيث تنظيمها وتعميرها، ومعظم هذه الأحياء كانت تستمد أسماءها من أسماء العائلات التي تقطن بها، ونجد في الكتاب أمثلة كثيرة لهذه الأحياء منها حي اللمطيين والأندلسيين وجزاء ابن عامر ودرب ابن شليش…

أما الجانب الثقافي والديني: فيقدم لنا معلومات عن النشاط العلمي بالمدينة ودور المؤسسات التعليمية والدينية بها. فالجانب الفكري بالمدينة ارتبط منذ وقت بكر جدا بجامع القرويين، أي منذ أن أضيفت الجامعة إلى الجامع، وظل ـ بالرغم من وجود عدة مؤسسات أخرى إلى جانبه ـ يحتل مركز الصدارة في التربية والتعليم..

نصل إلى الجانب العمراني الذي ينتظم في الحقيقة المجالات السابقة برمتها؛ إذ يقدم لنا ابن عيشون الشراط، وصفا شاملا لمختلف المنشآت العمرانية بمدينة فاس، فقد قام المؤلف أثناء تتبعه لمدافن الصلحاء بتحديد مواقع عدد من المرافق التعليمية والصحية والاقتصادية والدينية، وهي مرافق اكتمل إنجازها بالمدينة خلال القرن السابع عشر الميلادي.

وقد قمنا في وحدة العلم والعمران بالرابطة المحمدية للعلماء بإنجاز خريطة تفاعلية عمرانية مستقاة من كتاب “الروض” لابن عيشون الشراط؛ أردنا من ذلك أن نمنح حياة جديدة للكتاب، وأن نساهم في إبراز الجوانب العمرانية الغميسة لمحروسة فاس، إيمانا منا بأن ازدهار مدننا لن يتم إلا عبر ربط الحاضر بالماضي كما تقتضي ذلك طبائع العمران..

رحم الله ابن عيشون الشراط، وجازاه عن فاس والمغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه.

أرسل تعليق